الخميس، 5 فبراير 2009

تنمية البشر قبل الحجر *

د.سليمان العسكري
حين نتأمل مسار التنمية الراهن في منطقة الخليج العربي خصوصا‏,‏ والبلاد العربية بشكل عام‏,‏ لابد أن نتوقف أمام ظاهرة لافتة‏,‏ تتمثل في شيوع العديد من مظاهر الحداثة الشكلية التي تتجلي في أساليب وطرز العمارة الأجنبية‏,‏ وشبكات الطرق الحديثة‏,‏ وفي التسابق في تشييد الأبراج الشاهقة‏,‏ والمباني الضخمة‏,‏ التي تقام علي مساحات شاسعة‏,‏ تضم المجمعات التجارية‏,‏ المنقولة عن النمط الأمريكي‏,‏ والتي أصبحت معلما من معالم الاستهلاك الشره‏.‏
كما تتجلي مظاهر الحداثة الجديدة في تشييد الجزر الاصطناعية في مياه الخليج لاستقطاب ساكنين جدد من خارج المنطقة وجذب السياح‏، بينما إذا ما تأملنا واقع التنمية البشرية ومسارها‏,‏ وجودة ما يحصل عليه المواطن الخليجي من منتجات التنمية الثقافية والتعليمية والأكاديمية والإعلامية‏,‏ فإن الصورة لن تكون بالاهتمام والسرعة ذاتها‏، أي أن التنمية التي شهدتها منطقة الخليج العربي منذ استعادة أغلب دولها الاستقلال وحتى اليوم‏,‏ تحيزت للحجر وخلق ظاهرة جنون الاستهلاك والرفاهية الاقتصادية علي حساب المعمار البشري‏,‏ أو تحيزت لثقافة الحجارة علي حساب ثقافة البشر‏.‏
تناقضات
ويمكننا اليوم أن نتأمل واقعا ممتلئا بالتناقضات نتيجة إهمال مسار التنمية البشرية لمصلحة تنمية الحجر‏,‏ عبر شواهد لا تحصي‏,‏ منها ـ علي سبيل المثال ـ إنشاء نسخ لمتاحف عالمية عريقة في قلب بعض دول المنطقة‏,‏ بدلا من تأسيس أكاديميات متخصصة في الفنون والتراث،‏ وبدلا من إنشاء متاحف وطنية لعرض تراث الفنون العربية والإسلامية التي تتفاخر باقتناء الكثير منها العديد من أعرق المتاحف الأوروبية‏,‏ لخلق المواطن القادر علي تطوير آثاره ودراستها والتنقيب عنها‏,‏ وتطوير الفنون والإضافة عليها‏.‏
كما نري التسابق لإنشاء الجامعات والمعاهد الخاصة‏,‏ قبل أن نسعى لتطوير المستوي الأكاديمي بالجامعات الوطنية المهملة‏,‏ التي تحول أغلبها إلي الاهتمام فقط بمنح الشهادات وإقامة المهرجانات لتوزيع تلك الشهادات‏!‏ أو إنشاء مهرجانات سينمائية دولية‏,‏ وغيرها من الشواهد المثيلة‏,‏ بدلا من إنشاء أكاديميات متخصصة لتعليم أبناء الوطن فنون السينما لخلق جيل من السينمائيين الخليجيين‏,‏ يسهمون في مسيرة هذا الفن في العالم العربي والعالم ـ وأرجو من القارئ أن يلتفت إلي السينما الإيرانية المعاصرة‏,‏ وما تحققه من منجزات علي مستوي العالم ـ أو إنشاء أكاديميات للفنون الموسيقية من شأنها تأسيس حركة موسيقية تتناسب مع تراث المنطقة الموسيقي‏,‏ ومواكبة التراث الموسيقي العالمي المعاصر‏,‏ كما لا نسمع عن تأسيس معاهد أو أكاديميات متخصصة في فنون المسرح‏,‏ مما يؤثر سلبا في تخليق حركة مسرحية خليجية متطورة‏,‏ تناسب التنمية المتسارعة التي تشهدها المنطقة منذ نصف قرن تقريبا‏.‏
الإنسان أولا
ولعل أي متابع لأي حركة تنمية حقيقية وتحديث ناجحة‏,‏ من مثل ما نشهده في منطقتي شرق آسيا وأمريكا اللاتينية علي سبيل المثال‏,‏ وغيرهما من تجارب التنمية الناجحة في أقطار أخري من أرجاء العالم‏,‏ يمكنه أن يدرك أن تلك الحركات تتأسس علي عنصرين أساسيين هما‏:‏ بناء الإنسان الحر الذي يتمتع بكامل حقوقه في دولة مؤسسات‏,‏ وإقامة التوازن بين الأصالة والمعاصرة من جهة‏,‏ والانخراط الكامل في منتوج الحداثة،‏ وبفحص مثل هذين الشرطين سنجد أن هناك‏,‏ في عملية التنمية‏,‏ نوعا من الإغفال لإمكان تحققهما‏.

وبإلقاء نظرة مدققة علي الواقع الثقافي اليوم في المنطقة‏,‏ يتبين لنا أن ما بدأته وحرصت عليه منذ مرحلة ما قبل الاستقلال‏,‏ فيما يتعلق بالعناية بالعنصر البشري‏,‏ وبناء الفرد‏,‏ كمحور مواز من محاور التنمية‏,‏ قد تقلص‏,‏ وتراجع‏,‏ بالمقارنة بين الطموحات الكبيرة للنهضة الكويتية‏,‏ مثلا‏,‏ في بداية مشروعها التنموي‏,‏ وبين ما هو موجود في الواقع الآن وهنا‏.‏
ولا أريد أن أقول إن هناك بعض الشواهد التي تبدو في جوهرها محاولة للابتعاد عن مشروع تنمية البشر‏,‏ والالتفات لثقافة الحجارة المستلهمة من الخارج‏,‏ عبر التسابق في بناء مجموعات من الأبراج السكنية والتجارية‏,‏ وتحويل منطقة الخليج إلي أسواق لترويج بضائع ومنتجات الدول الكبري وشركاتها‏,‏ وهي قد لا تضير إذا كانت استثمارا يوازيه استثمار في الفرد‏,‏ وفي خلق المنتج المحلي‏,‏ وفي بناء الشخصية الخليجية‏,‏ لكنها قد تصبح عبئا إذا لم تواكبها تطلعات طموح متماثلة لبناء الفرد‏.

ويمكننا الآن أن نراجع أوضاعا تكشف تراجعا في حقول الثقافة والفنون والإعلام‏,‏ لا يمكن القول عند رصدها إنها تعكس تجمدا في الأنشطة الإبداعية‏,‏ وفي توفير المناخ الثقافي الذي تربت عليه أجيال عدة من أبناء الكويت والمنطقة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي‏، بل هي تعكس تراجعا سافرا في تلك الحقول‏,‏ ليس علي مستوي مقارنة الطموح المأمول بما آلت إليه الأمور فقط‏,‏ بل حتى على واقع تراجع كامل للنشاط الثقافي وإهمال إنجاز البنية التحتية للتنمية الثقافية‏,‏ كالمسارح والمعاهد الفنية‏,‏ ودور النشر‏,‏ والمكتبات العامة والمتاحف وقاعات الفنون والموسيقي للكبار والصغار علي حد سواء‏.‏
هذه البنية كمثل تؤكد لنا حجم الغفلة التي مررنا بها وتناسينا الإنسان في سباقنا المادي والحجري‏!‏ ولعله ليس من المبالغة الإشارة إلي العلاقة الطردية بين هذا الواقع الثقافي المتردي وانحساره‏,‏ وعلاقته بارتفاع نبرة أصوات متشددة‏,‏ تريد العودة بالمجتمع إلي عصور خلت مثيرة للنعرات القبلية والمذهبية والطائفية‏,‏ لا يبررها مجتمع حديث يقوم علي أسس الديمقراطية والدساتير الحديثة‏,‏ كما يقوم علي أساس من التنوع والاختلاف يتأسس علي أسس التسامح والمعرفة‏,‏ لا الانغلاق واعتماد الفكر الأحادي‏.‏
الاستثمار في البشر
كما أنه من البديهي أيضا القول إن الثقافة‏‏ في مجتمعاتنا العربية‏,‏ تقابل ما تعكسه دور العلوم العصرية والتقنية في ترتيب مواقع الدول في تقدمها‏,‏ وبالتالي‏,‏ فإن المثقفين يلعبون دورا مركزيا في هذا المجال‏,‏ وفي تخطيط السياسات العليا التي تنطلق من التوجه العام لديهم‏،‏ ولا يمكن أن تحقق الثقافة الدور المأمول منها إذا لم يوضع العنصر البشري علي رأس أولويات التنمية في أي مجتمع‏,‏ بحيث يتلقي الفرد تعليما جيدا وراقيا وفقا لأحدث نظم التعليم‏,‏ وأن يتلقي المعارف‏,‏ بحرية تامة‏,‏ من منابعها‏,‏ وأن يتعرف علي أمهات المعارف‏,‏ أدبا وفكرا وعلما وفنا‏,‏ وأن تتاح له الوسائل التي تتيح له التعرف علي ما يصدر في العالم من معارف‏,‏ وإعمال العقل‏,‏ ووضع كل الأفكار تحت مجهر النقد ليكتسب القدرة النقدية التي تمكنه من التمييز والوعي‏,‏ واكتساب القيم الإيجابية‏ والابتكار‏.‏
فمثل هذه الشخصية هي ما نحتاج إلي بنائها‏,‏ لتحقيق التنمية في شكلها المثالي‏,‏ والنهضة التي نصبو إليها‏,‏ ليس هنا فقط‏,‏ وإنما في منطقة الخليج العربي‏,‏ وفي الأقطار العربية كافة، فقد خاضت المجتمعات العربية‏,‏ كفاحا ونضالا قويين للتحرر من المستعمر‏,‏ ثم لتأسيس نهضتها المعاصرة بسواعد أبنائها عبر استعادة تراث التنوير العقلي‏,‏ وبناء شخصية قادرة علي التعامل مع لغة العصر الحديث‏,‏ بندية ومرونة وطموح للوصول بثقافتنا ومجتمعاتنا إلي ما تستحق من مكانة‏.‏
________________________________________
رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية
*نقلا عن جريدة الأهرام اليومية المصرية بتاريخ 4-2-2009





ليست هناك تعليقات: