الخميس، 23 أكتوبر 2014

ماكينتوش وسط زبالة!


ماكينتوش وسط زبالة!
حبيب سروري * - العربي الجديد 

حبيب سروري، يتبع هواجسه، باحثًاً في ملفات كومبيوتر مرمي
رمقتُ، وأنا أرمي منديلاً في زبالةٍ باريسيّة وسط شارع، ماكينتوشاً محمولاً صغير الحجم، فضيّ الإطار، أنيقاً جدّاً! استغربتُ، واصلتُ مسيري، ثم عدتُ القهقرى بلا وعي لآخذهُ وأضعهُ في حقيبة ظهري. ليس لأني احتاجه، لكن، ربما، لأنها أوّل مرّة أرى كمبيوتراً في زبالة! ركنتُه في المساء. ثمّ قرّرتُ بفضولٍ فاتر ربطَهُ بشبكة كمبيوترات لِفحصه. اكتشفتُ أنه ما زال يشتغل، وأن صاحبه لم يمسح ملفّاته، وأنها غابةٌ عامرة بمئات الجيجابايتات. تمكّنتُ، بعد جهدٍ مضنٍ، من الوصول بطريقةٍ ما إلى ملفّاته من دون الحاجة إلى كلمة السرّ! راودتني رغبةٌ تلصّصية عنيفة في التجوّل في الغابة. كبحتُ رغبتي الآثمة بصعوبة. لكني فضّلتُ -لا أدري لماذا- أن أنسخ مجموع هذه الملفات في جهازٍ خارجي للاحتفاظ بها فيما إذا تعطّل الكمبيوتر كليّة.


ثمّ حامت في رأسي أسئلة مرتعشة: أيحقُّ لي أخلاقياً تصفُّحُ هذه الملفات؟ لمَ لا، وليس لي في ذلك أدنى غرض، غير إسكات حبِّ استطلاعٍ جامح؟ أيختلفُ تصفحي لها عن تجسّس كبار شركات الكمبيوتر على أجهزتنا عند ربطها بالإنترنت؟ إذ لا يوجد تقنيّاً ما يمنعها اليوم عن ذلك. بل أكثر: غرستْ تلك الشركات، في كل كومبيوترٍ صُنِع بعد أحداث ١١ سبتمبر، برمجيات تُفهرس محتويات ملفّاته، بحيث يمكن عند البحث عن كلمةٍ ما، مثل "أحبك" أو "القاعدة"، (من قبل المستخدِم، أو سرّاً من قبل جاسوسٍ رقمي)، الوصولُ بشكل مباشر لكلّ الملفّات التي تحوي الكلمة. بل أكثر أيضاً: يحقّ لها الآن وقد دخلنا عصر البيانات العملاقة، Big Data الشفطَ اليومي لكلّ ما نترك من آثارٍ ونصوصٍ وكتابات: تعليقاتنا، منشورات الفيسبوك، تويتر، ما نبحث عنه في غوغل، أغانينا المفضّلة، أصدقاؤنا، ما نشتريه بالبطاقة المصرفيّة، ومن ثمّ أرشفته في مستودعات ضخمة من الكمبيوترات، فتقديمه لبرمجيّات ذكيّة لتحليله. وذلك لدراسة شخصيّتنا وميولنا وهوّيتنا أي الـ D.N.A الرقميّة الخاصّة بنا، لترسم بذلك جينومنا الرقمي! كلّ ذلك بغرض معرفة آلية عمل عصبونات أدمغتنا، وتوجيه رغباتنا الاستهلاكية، والتأثير مستقبلاً على سلوكنا في كل مجالات الحياة والسيطرة عليها.
ثمّ خطرت ببالي أفكارٌ عابثة لتبرير رغبتي التلصّصية: من يدري لعلّ من رمى الكمبيوتر في الزبالة انتحر بعد ذلك، أوقُتِل؛ وثمّة ربما ملفّات في كمبيوتره ستكشف سرّ رميه على قارعة الطريق، مع كلِّ هذا الكمّ الزاخر من الملفات والإيميلات الشخصية! ألا يلزم على الأقل أن أعرف اسم صاحب هذا الكمبيوتر من قراءة أحد إيميلاته فقط من دون فتح ملفّاته، لأتابعه بعد ذلك على الإنترنت علّي أفكّك هذا السر؟
فتحتُ أحد الإيميلات. مفاجأة! أعرف صاحب الكمبيوتر: ف.ج! كان طالبًا معي في الماجيستر في جامعة باريس، في ١٩٨٣!
كنّا ٢٥ طالبًا، في ماجستير نخبَويٍّ. كنّا حقل تجارب لِعِلم جديد: علم الكمبيوتر. مُنحنا بفضل ذلك، إمكانيات اتصال وشغل استثنائيين على شبكات كمبيوترات وطنيّة ودوليّة تجريبية، سبقتْ بعقدٍ إنترنتَ اليوم المفتوحَ للجميع، وهيّأتْ له.
كان ف.ج. أكثرنا إدمانًا على عشق البرمجة، سريع التذمّر والملل عندما لا ينظر إلى شاشة، لا يميل إلى الاختلاط بالآخرين، ولا يهتم بمظهره كثيرًا. وكان له كمبيوتره الشخصي، الذي يأتي به إلى الصفّ مربوطًا على ظهره بحبال! لا أنسى منظرَهُ وهو يعبر شوارع باريسية وعلى ظهره دبٌّ قطبيٌّ صغير إذ إن كمبيوترات بداية الثمانينات كانت ضخمةً وثقيلةً.
كنّا نمتلك جميعًا حسابات شخصيّة على حاسوبٍ عملاقٍ بعيد، في مدينة بوردو الفرنسية، نرتبط به. ونعمل طوال الليل؛ كلٌّ على حسابه ومشاريعه، ويترك ما شاء منها مفتوحًا للآخرين، للاطّلاع والاستفادة والاقتباس أو النقد. تفاعلٌ وديٌّ وعمليٌّ في فضاءٍ رقميٍّ إنسانيٍّ مشتركٍ حرّ، وسعادة من يشعر أنه وُلِدَ في الزمن المناسب ليكون على موعدٍ مع ولادة علمٍ جديدٍ واعد.
كنتُ أدخل في حساب ف.ج. بانتظام. أتابع تنظيمَه لِشجرة ملفّاته و"أتلصّص" على كلّ أعماله المفتوحة للجميع. أغرقُ في قراءة البرمجيات التي يكتبها: أنيقة بشكلٍ استثنائي، ذات جَمالٍ مطلق. أتناقش معه في منتديات فضائنا الإلكتروني حول بعضها. ولاحظتُ: كان يميل لاستخدام لغات الكمبيوتر الأكثر تعبيرًا وأرستقراطيةً، والنابعة من علوم الرياضيات والذكاء الاصطناعي. يُطوِّعها لتصميم نصوصِ برمجيات صلصاليةٍ شديدةِ التكثيف والتجريد، قابلةٍ لأن تُكيَّف وتُستخدم في مجالات شتّى لا يربطها رابط أحياناً. كنتُ أشعر بسعادةٍ خاصّة وأنا أقرؤها: نقيّةً، أنيقةً، شفّافة رقراقة. كنتُ كمن يقرأ نصًّا أدبيًّا، ملحمةً شعريّة!.صرتُ قادراً على تمييز أسلوبه الجماليّ الفريد في كتابة البرمجيات من بين مليون أسلوب.
كان يتركُ أجندتَه اليوميّة في ملفٍ مكشوف، وقسطاً من مذكراته. استغربتُ كثيراً تركها هكذا في العراء للعامّة من سكّان الحاسوب. وقعَتْ عيناي عليها مصادفةً، لكني كنتُ أمنع نفسي بصعوبة من قراءتها، وإن شعرتُ من نكهةِ شذرات بعضِها أن حياة ف.ج. ليست عاديّة. غامضةٌ وغريبةٌ جدّاً.
اختفى ف.ج. بعد الماجستير، ولم أعرف عنه شيئًا، إلا ما قاله لي زميلٌ قديمٌ: يسافر ف.ج. من بلدٍ إلى بلد، يعيش وحيداً، متنقّلاً بين المقاهي والطرقات والفنادق. يضع مجانًا بين آن وآخر برمجيّات ترفيهيّة صغيرة على الإنترنت، لتكون في متناول الجميع، أو يضع أخرى مهنيّة، يبيعها لِتسمح له بعيش حياة بوهيميّة حرّة، يطوف فيها العالم، ترافقه حقيبةٌ شخصية وكمبيوتر محمول!.
اجتاحتني في منتصف الليل رغبةٌ شيطانية زرقاء داكنة، في الغوص في ملفّاته التي نسختُها من الماكينتوش المرمي وسْط زبالة. أوّل ما أثارني وأنا أتصفّح خارطة قارّات ملفّاته، حرصه على أرشفة كلِّ يوميات حياته، بكلِّ تفاصيلها، منذ بدء الثمانينات من القرن المنصرم. فوجدتُ تلك الشذرات التي وقعَتْ عليها عيناي مصادفةً، في حاسوب بوردو العملاق أثناء سنة الماجستير! كلُّ إيميلاته وكلُّ ملفاته، كلُّ حركاته وسكناته وخواطره، مؤرشفة بشكلٍ مذهلِ التنظيم. غصتُ بلا وعي في هذه الغابة، غرقتُ فيها كما لو كنتُ أقرأ رواية، لم أتوقف عن عبورها وعن التسكُّعِ فيها، قبل أن أكتشف فجأةً تفسيراً لسرٍّ جوهريٍّ حميم في صميم حياتي الخاصّة، أهمِّ أسرارها إطلاقًا .
د:حبيب سروري
بروفيسور في علوم الكمبيوتر وروائي يمني يعيش ويعمل حالياً في فرنسا.

السبت، 18 أكتوبر 2014

منتدى «السلام الأزرق» في اسطنبول: الحوار والتعاون لحل صراعات المياه في الشرق الاوسط




منتدى «السلام الأزرق» في اسطنبول:
الحوار والتعاون لحل صراعات المياه في الشرق الاوسط

عمر الحياني – استطنبول




يعد الصراع المستقبلي على المياه في الشرق الاوسط القضية البارزة  التي تواجهه دول المنطقة في ظل المتغيرات والمؤشرات التي تعصف بها .
فخلال الخمسين سنة الاخيرة تصاعد الطلب على المياه في أعقاب التزايد الكبير لأعداد السكان مع بروز نقص حاد في الموارد المائية  مرتبطا بقضايا التلوث البيئي والتغيرات المناخية والاستخدام السيء لها  مع غياب مفهوم الادارة المستدامة والكفؤة للموارد المتاحة .

ولأن تحقيق الأمن المائي من الأولويات التي يفرضها المستقبل ، لاسيما في منطقة تعاني من شح في الموارد المائية في ظل وجود موارد مائية مشتركة بين عدد من الدول  وخاصة العراق ، وسوريا ، والاردن ، ولبنان  بالإضافة الى تركيا ، كان لابد من ظهور تحركات سريعة لمواجهة احتمالات الصراع على تلك الموارد .
وقد برزت مبادرة «السلام الأزرق في الشرق الأوسط» التي أطلقت عام 2010 في الاردن والتي تهدف الى استخدام المياه كأداة لصنع السلام وتعزيز التعاون لآجل تحقيق الأمن المائي في المنطقة.
واستمرارا للمبادرة السابقة عقد منتدى "السلام الازرق في الشرق الاوسط " في  اسطنبول بتركيا في الفترة من (19-20 سبتمبر/ أيلول 2014)، الذي نظمته مجموعة الاستبصار الاستراتيجي وجامعة (MEF) بإسطنبول والإدارة السياسية لوزارة الاتحادية السويسرية للشئون الخارجية، وعدد من الخبراء والمتخصصين ونواب بشأن المياه.
وقد شارك في المنتدى 90 شخصا من  صانعي السياسات وأعضاء البرلمان، و ووزراء سابقين وقادة وسائل إعلام وأكاديميين وخبراء في مجال المياه من مختلف أنحاء الشرق الأوسط .

وقد تمحورت الجلسات النقاشية والحوارية في المنتدى حول مفهوم موحد ومشترك بأن «المياه ليست ملكاً لدولة فهي مَورد إقليمي مشترك».
كما تطرق المنتدى الى أبعاد الصراعات الدولية حول المياه  وتأثيراتها السلبية بين الدول المشتركة في الموارد المائية كتركيا ، والعراق ، وسوريا ، ولبنان ، والاردن .
ونوه المشاركون في المنتدى بأهمية العمل على تفعيل الحوار كأداة للتفاوض المستقبلي لحل المشكلات المائية وتقاسم موارده بعيدا عن الحروب ودورات الصراعات المتواصلة .
ادارة مشتركة للموارد المائية
وتظل الادارة المشتركة للموارد المائية حل وحيد ومقبول لحل اشكاليات المياه  ووفق التجارب التي عرضت في هذا الجانب أبدى المشاركون في المنتدى إهتماما  بالغا بأهمية استفادة الدول العربية الأربع وهي سورية والعراق والأردن ولبنان بالإضافة لتركيا من تجارب سويسرا بنهر الراين والسنغال في إدارة مواردها المائية المشتركة، بطريقة مستدامة قائمة على الادارة المشتركة للموارد المائية .

وهو ما أكده وزير الزراعة والموارد المائية في حكومة إقليم كردستان، العراق. عبد الستار مجيد القادر،  في كلمته التي القاه في المنتدى بقوله أن "الإدارة الجماعية للموارد المائية ضرورية للغاية ، ويمكن تحقيقها بالتعاون والاستخدام المستدام للموارد الحالية وعبر استكمال الموارد مع وسائل أخرى مثل مياه الأمطار والينابيع واستخدام تكنولوجيا متقدمة".

هذا وقد عرض بامدين ضمن جلسات المنتدى  تجربة حوض نهر السنغال في ادارة المياه المشتركة بين الدول المجاورة مثل موريتانيا، السنغال ، غينيا وتقاسم المنافع من خلال الإدارة المشتركة للنهر وبما يعزز الاكتفاء الذاتي من خلال توزيع المياه لأغراض الزراعة والري حسب حاجات المزارعين في حوض السنغال  .
 وفيما يخص اتخاذ القرارات بشان القضايا التي تواجههم أكد بامدين "ان الية اتخاذ القرارات بين دول الحوض تتم بالتوافق وليس بالتصويت " .
موضحا انه وعلى الرغم من التوترات التي كانت سائدة بين موريتانيا والسنغال في الفترة ما بين عامي 1989و1992 كان المسئولون في المنظمة  يلتقون ويتحاورون بشكل ملفت وبطريقة رائعة ".
وقد تطرق المنتدى الى قضايا التغيرات المناخية  والاحتباس الحراري وتأثيراتهما  على مناسيب المياه وتدفقها مع استمرار النمو السكاني وتدهور البيئة .
حيث تعد التغيرات المناخية والاحتباس الحراري عاملان مؤثران  على الموارد المائية ، ولمواجهة هذان العاملان يجب الالتزام المتبادل بالتعاون في سبيل توفير المياه في ظل الضغوط الإضافية بسبب تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين بسبب الصراعات المستمرة في كلا من العراق وسوريا .
وقد شدد المشاركون في المنتدى على انه لا ينبغي  ان يستخدم الماء كورقة ضغط في العلاقات بين الدول، ولكن بالأحرى أن ينظر للمياه المشتركة كأداة لتطوير الحوار والسلام.
وعلى ضوء ذلك، قالت الخبيرة في مجال المياه، أمين عام وزارة المياه والري السابق في الأردن ميسون الزعبي: إن «الفكرة من منتدى السلام الأزرق للمياه بأن تستخدم المياه في صنع السلام والحوار بدل أن تستخدم المياه كسلاح للحروب وقتل الشعوب».
مضيفة «جاءت الفكرة بأن تكون المياه لصنع السلام ولغة الحوار وأن تكون هناك حلقات من التعاون المستمر بين الدول المشاركة وهي العراق والأردن ولبنان وسورية بالإضافة لتركيا، باعتبار إنها تشارك في أحواض مياه مشتركة».
وقد اقر المنتدى "السلام الازرق" في ختام جلسات مناقشته  سبعة مبادئ للتعاون بين الدول الاقليمية بحيث تشكل ركيزة للعمل الجماعي لعل ابرزها إنشاء مجلس تعاون من أجل الإدارة المستدامة للموارد المائية في الشرق الأوسط وبما يشكل جسر لبناء الثقة بين البلدان عن طريق تبادل البيانات والمعلومات والتكنولوجيا .
والسعي الى تحقيق الامن المائي والغذائي والطاقة ، وضرورة التعاون لإدارة مخاطر المناخ  وتحسين ادارة المياه بطرق مستدامة مع رفض استخدام المياه كأداة للحرب .
وذكرت الزغبي «لكي نخرج بتوصيات مناسبة قمنا بإجراء دراسة عن كل دولة، وأهم توصية خرجت من الدراسة أن ينشئ مجلس إقليمي للمياه من شأنه جعل الدول العربية مع تركيا أن يتشاركوا في الرأي والدراسات التي تهدف لإدارة متكاملة مع مصادر المياه».
كما شددت «على أن يكون الإعلام جزءاً أساسياً ومطلعاً على مانقوم به، فهو لغة التواصل بين الشعوب وقررنا أن يشاركنا في المنتدى أشخاص قريبون من صناع القرار لكي يوصلوا توصياتنا ودراساتنا لهم بشأن حثهم على إيجاد حلول لأزمة المياه».
وللاطلاع على تجارب الآخرين، تقول الزغبي «قمنا بزيارة لنهر الراين في سويسرا للإطلاع على تجاربهم في مجال المياه، كما ستكون لدينا زيارة لفيتنام لنتعرف على نهر نيكتون، وقد اطلعنا في هذا المؤتمر على تجربة السنغال الناجحة في إدارة المياه».
وفي نهاية المنتدى، قالت مديرة «منتدى السلام الأزرق في الشرق الأوسط»، أمبيكا فيشواناث «اتفق المشاركون  على ضرورة  التعاون بين الدول المعنية لإدارة الموارد المياه  المشتركة وخاصة  سورية، لبنان، العراق، الأردن وتركيا.
 كما شددت على  بناء الثقة وتعزيز روح التعاون وبما يساهم في تبادل المعلومات التكنولوجيا، و تقاسم المنافع وخلق ادارة قادرة على صنع  تنمية مستدامة للجميع يحفظ الحقوق المائية للكل وبما يساعد  على الامن المائي والغذائي والطاقة، وإدارة مخاطر التغيّر المناخي، وعلى كل دولة إدارة مواردها المائية بكفاءة.

الخميس، 16 أكتوبر 2014

من قتل نوكيا؟

من قتل نوكيا؟
الجزيرة نت

 في عام 2007 كانت شركة نوكيا تمثل أكثر من 40% من مبيعات الهواتف المحمولة في العالم (رويترز)
بيكا نيكانين وميرينا سالمينين*
يبدو أن خسارة الشركات الرائدة لمواقعها القوية في نهاية المطاف، وفي كثير من الأحيان بسرعة وبشكل وحشي، تمثل قانونا راسخا في عالم صناعة التكنولوجيا.
ولم تكن خسارة شركة الهواتف المحمولة الرائدة نوكيا -وهي واحدة من أكبر قصص النجاح التكنولوجي في أوروبا- لحصتها في السوق في غضون بضع سنوات من قبيل الاستثناء.
ولكن تُرى هل تتمكن شركات الصناعة صاحبة الريادة الجديدة مثل آبل وغوغل من تجنب مصير نوكيا؟
في عام 2007 كانت شركة نوكيا تمثل أكثر من 40% من مبيعات الهواتف المحمولة في مختلف أنحاء العالم، ولكن تفضيلات المستهلكين كانت في طريقها بالفعل إلى التحول نحو الهواتف الذكية التي تعمل باللمس.
ومع تقديم الجهاز "آيفون" من إنتاج شركة آبل في منتصف ذلك العام، تقلصت حصة نوكيا في السوق بسرعة وتراجعت إيراداتها بشدة، وبحلول عام 2013 انتهى المطاف بنوكيا العريقة إلى بيع صناعة الهواتف لشركة مايكروسوفت.
"الواقع أن ما أدى بنوكيا إلى هذا المصير كان سلسلة من القرارات التي اتخذها ستيفن إيلوب في منصبه كرئيس تنفيذي للشركة والذي شغله في أكتوبر/تشرين الأول 2010"
ستيفن إيلوب
الواقع أن ما أدى بنوكيا إلى هذا المصير كان سلسلة من القرارات التي اتخذها ستيفن إيلوب في منصبه كرئيس تنفيذي للشركة والذي شغله في أكتوبر/تشرين الأول 2010.

فمع مرور كل يوم قضاه إيلوب على رأس شركة نوكيا، كانت القيمة السوقية للشركة تنخفض بنحو 23 مليون دولار الأمر الذي يجعله، كما تؤكد الأرقام، واحداً من أسوأ الرؤساء التنفيذيين في التاريخ.
كان الخطأ الأكبر الذي ارتكبه إيلوب اختيار نظام تشغيل ويندوز مايكروسوفت باعتباره المنصة الوحيدة لهواتف نوكيا الذكية.
وفي مذكرته بعنوان "المنصة المحترقة"، شبه إيلوب نوكيا برجل يقف على منصة حفر نفطية تحترق في البحر، ويواجه الموت حرقاً أو القفز إلى بحر هائج، وكان على حق في أن العمل كالمعتاد يعني الموت المحقق لنوكيا، ولكنه أخطأ عندما اختار مايكروسوفت كطوق نجاة للشركة.
لكن إيلوب لم يكن الشخص الوحيد على خطأ، فقد قاوم مجلس إدارة شركة نوكيا التغيير الأمر الذي جعل من المستحيل أن تتكيف الشركة مع التحولات السريعة التي طرأت على الصناعة.
وعلى وجه خاص، كان غورما أوليلا الذي قاد تحول نوكيا من تكتل صناعي إلى عملاق في عالم التكنولوجيا، مغرماً بنجاح الشركة السابق في إدراك التغيير الذي كان مطلوباً لتمكينها من الحفاظ على قدرتها التنافسية.
كما شرعت الشركة في تنفيذ برنامج يائس لخفض التكاليف، والذي تضمن إلغاء آلاف الوظائف.
وقد ساهم هذا التمشي في تدهور ثقافة الشركة الحماسية النشطة التي حفزت موظفيها لخوض المجازفات وتحقيق المعجزات، فاضطر قادة مهرة إلى ترك الشركة آخذين معهم حس الرؤية والاتجاه الذي كانت تتمتع به شركة نوكيا، ولم يكن من المستغرب أن يترك الشركة أيضاً العديد من أصحاب المواهب في التصميم والبرمجة.
بيد أن العائق الأكبر الذي حال دون تمكين نوكيا من خلق ذلك النوع من خبرة الهاتف الذكي البديهية السهلة التطبيق التي قدمتها أجهزة "آيفون" و"أندرويد" كان رفضها لتجاوز الحلول التي دفعت نجاحاتها في الماضي.
على سبيل المثال زعمت نوكياً في مستهل الأمر أنها لا تستطيع أن تستخدم نظام تشغيل أندرويد من دون ضم تطبيقات غوغل على هواتفها.
ولكن قبل استحواذ ميكروسوفت على الشركة مباشرة، قامت نوكيا فعلياً ببناء خط إنتاج للهواتف التي تعمل بنظام أندرويد وأطلقت عليه اسم "نوكيا إكس" الذي لم يشمل تطبيقات غوغل لكنه استخدم بدلاً من ذلك خرائط نوكيا ومحرك مايكروسوفت للبحث.
هنا يمكن التساؤل لماذا رفضت نوكيا اختيار أندرويد في وقت سابق؟ الإجابة القصيرة هي المال، فقد وعدت مايكروسوفت بدفع المليارات من الدولارات لنوكيا كي تستخدم هاتف الويندوز حصرا.
ولأن غوغل توزع برنامج أندرويد مجاناً، فإنها لن تتمكن من مجاراة هذا العرض، ومع ذلك لا تستطيع أموال مايكروسوفت إنقاذ نوكيا، فمن غير الممكن بناء نظام بيئي صناعي بالمال وحده.
لا شك أن خبرة إيلوب السابقة في مايكروسوفت كانت بمثابة عامل مؤثر أيضا، ففي المواقف الصعبة يتحول الناس عادة نحو ما هو مألوف.
وفي حالة إيلوب، تصادف أن المألوف كان شركة أخرى على وشك الغرق، وبعد أن سمع أن نوكيا اختارت ويندوز، نشر مدير غوغل فيك جوندوترا تعليقاً على موقع تويتر يقول فيه "لا يمكنك أن تصنع نسراً بدمج ديكين روميين".
"لا ينبغي لشركات مثل آبل وغوغل أن تركن إلى الاسترخاء، فكما حدث مع نوكيا في صناعة الهواتف المحمولة -ناهيك عن مصير مايكروسوفت وشركة "آي بي إم" في صناعة أجهزة الكمبيوتر- سوف تفقد هذه الشركات مركزها القيادي مع الإقرار بوجود خطوات يمكنها أن تتخذها لإطالة أمد نجاحها "
وصفة إدامة النجاح
ولا ينبغي لشركات مثل آبل وغوغل أن تركن إلى الاسترخاء، فكما حدث مع نوكيا في صناعة الهواتف المحمولة -ناهيك عن مصير مايكروسوفت وشركة "آي بي إم" في صناعة أجهزة الكمبيوتر- سوف تفقد هذه الشركات مركزها القيادي مع الإقرار بوجود خطوات يمكنها أن تتخذها لإطالة أمد نجاحها.
أولا، يتعين على الشركات أن تستمر في الإبداع والابتكار من أجل تحسين فرص ظهور تكنولوجيات فائقة التطور من داخلها، وإذا نفذ رواد السوق نظاماً لاكتشاف ورعاية الأفكار الجديدة فسوف يكون بوسعهم البقاء على قمة صناعاتهم المتطورة.
ثانيا، يتعين على الشركات الكبرى أن تحتفظ بسجل تتبع للمبدعين الناشئين، وبدلاً من تشكيل شراكات مع شركات أصغر حجماً تناسب نماذج أعمالها الحالية، ينبغي للشركات الكبرى أن تعمل مع الشركات البادئة المبدعة التي تحمل إمكانات خارقة مخلة بالنظام القائم.
أخيرا، ورغم أن الشركات الناجحة لا بد أن تبدع على نحو مستمر، فلا ينبغي لها أن تخاف من التقليد، فلو بدأت نوكيا على الفور بتطوير منتجاتها على غرار آيفون، مع معالجة القضايا المرتبطة ببراءات الاختراع بشكل فعّال، فإن صناعة الأجهزة المحمولة كانت تبدو مختلفة للغاية اليوم.
وتحمل تجربة نوكيا أيضاً درساً مهماً للقائمين على التنظيم، وخاصة في الاتحاد الأوروبي.
إن محاولة إخماد التكنولوجيات المخلة بالنظام القائم وحماية الشركات من خلال حملات مكافحة الاحتكار على سبيل المثال ليست بالخيار الوارد.
والواقع أن هذا النهج من شأنه أن يلحق الضرر بالمستهلك في نهاية المطاف سواء من خلال إعاقة التقدم التكنولوجي أو القضاء على منافسة الأسعار، كتلك المنافسة من قِبَل أجهزة سامسونغ التي تعمل بنظام أندرويد ما أرغم آبل على خفض أسعار أجهزة الآيفون.
هنا يكمن الدرس الأكثر أهمية المستفاد من سقوط نوكيا، فشركات التكنولوجيا لا يمكنها تحقيق النجاح ببساطة من خلال إرضاء مجالس إداراتها أو حتى عقد صفقات بملايين الدولارات مع الشركاء.
إن الشركة القادرة على إسعاد المستهلك -سواء كانت شركة راسخة متعددة الجنسيات أو شركة ديناميكية بادئة- سيكون الفوز من نصيبها، اما الشركات التي تغفل عن هذه الحقيقة فمحكوم عليها بالفشل.
_______________
*كاتبان شاركا في تأليف كتاب "العملية إيلوب" حول صعود نوكيا وسقوطها الذي نشر بفنلندا الأسبوع الماضي.
المصدر : بروجيكت سينديكيت