الأربعاء، 27 يناير 2010

المقاعد الساخنة والكومبيوترات المحمولة.. هل تؤثر على الحيوانات المنوية؟


المقاعد الساخنة والكومبيوترات المحمولة.. هل تؤثر على الحيوانات المنوية؟
ارتفاع درجة حرارة الصفن يقود إلى تباطؤ إنتاجها
كمبردج (ولاية ماساتشوستس الأميركية): « الشرق الأوسط»*
ربما يتساءل كل رجل استخدم أداة رياضية حافظة للخصيتين (وهي مشد مطاطي مرن يرتديه الذكور من الرياضيين أو ذوي الأعمال المجهدة - المحرر): لماذا وضعت هاتان «الجوهرتان العائليتان» معلقتين في مثل وضعيتهما هذه التي تتهددها الظروف، ولمَ لمْ توضعا داخل جوف الرجل الواقي لهما، كما هي الحال بالنسبة للمبيضين، العضوين المقابلين لدى النساء؟
* موضع متميز
* في الحقيقة، الخصيتان تتخذان موقعهما في عمق الجزء الخلفي من منطقة وسط البطن خلال مرحلة نشوء الجنين. ولكن، وعندما يكون الحمل في أسبوعه الـ17، تبدأ الخصيتان في النزول عبر تلك المنطقة. ثم تصلان إلى منطقة ما بين الفخذين خلال فترة 5 إلى 10 أسابيع لاحقة. ثم، وبوصول الحمل إلى أسبوعه الـ30، تنفذان نحو الصفن، وهو وعاء الخصيتين.
وهناك تفسير بسيط لهذا الموضع، وهو درجة الحرارة؛ إذ، ومهما كانت درجة الحرارة لدى شخص ما، عالية كانت أو منخفضة، فإن درجة حرارة الصفن تقل في المتوسط بمقدار 5 درجات فهرنهايت (2.8 درجة مئوية) عن حرارة الجسم الداخلية. ودرجة الحرارة المتدنية هذه في الصفن حيوية لإنتاج الحيوانات المنوية (الحيامن).
وهكذا، وعندما تتوافر الظروف المناسبة، فإن خصيتي رجل شاب تنتجان 1000 حيوان منوي (حيمن) في الثانية. إلا أن ارتفاع درجة حرارة الصفن يقود إلى تباطؤ إنتاج الحيامن، الأمر الذي يؤدي أحيانا إلى الإخلال بخصوبة الرجل.
* الجلوس الطويل
* كثير من الرجال والنساء لديهم من الأسباب ما يكفيهم للقيام بالحركة الدائمة. إلا أن مرحلة العمر التناسلية للرجال دافع مهم لهم للامتناع عن الجلوس الطويل.
ويزيد الجلوس لفترة ساعتين من درجة حرارة الصفن بمقدار 4 درجات فهرنهايت (2.2 درجة مئوية). ولكن هذا التأثير مؤقت. إلا أن الرجال الذين يقضون في المتوسط ثلاث ساعات من الجلوس يوميا خلف مقود سياراتهم، يعانون صعوبة أكثر في إنجاب الأطفال من نظرائهم الذين يقضون أوقاتا أقل في سياراتهم.
* المقاعد الساخنة
* المقاعد الساخنة في السيارة ربما تجلب الشعور بالراحة أثناء فترات الشتاء الباردة، إلا أنها تزيد من صب الزيت على النار التي تسخن الصفن! وللتأكد من ذلك، أجرى باحثون ألمان دراسة على 30 من المتطوعين الأصحاء بين أعمار 20 و53 سنة، ارتدوا أثناء التجارب سروالا داخليا قصيرا عاديا في طوله، وقميصا، وبنطالا. وقضى كل متطوع فترة 90 دقيقة وهو جالس على مقعد في سيارة. وكان الباحثون يقيسون درجة حرارة الصفن، كل دقيقة، لكل منهم لدى جلوسهم على مقاعد ساخنة، أو غير ساخنة.
وأظهرت النتائج أن درجة حرارة الصفن ارتفعت حتى لدى المتطوعين الذي جلسوا على مقاعد غير ساخنة. إلا أن مقاعد السيارة الساخنة زادت درجة حرارة الصفن بمقدار إضافي بلغ درجة واحدة فهرنهايت (0.55 درجة مئوية)، وذلك على الرغم من عدم ارتفاع درجة حرارة جسم المتطوعين الداخلية.
* الكومبيوترات المحمولة
* الكومبيوترات المحمولة (أو الحضنية) أدوات مرغوبة، أي «ساخنة»! وهي ساخنة إلى حد أن درجة حرارتها الداخلية تصل إلى 158 درجة فهرنهايت (70 درجة مئوية). وغالبية الناس يضعون كومبيوتراتهم المحمولة، إما على المكتب وإما على الطاولة. ولكن ماذا يحدث إن وضعت هذه الكومبيوترات كما يشير اسمها، في أحضانهم؟ وقد أجاب علماء أميركيون عن هذا السؤال عندما طلبوا من 29 متطوعا من الأصحاء، تراوحت أعمارهم بين 21 و35 سنة، قضاء فترة 60 دقيقة، أن يجلس قسم منهم واضعين كمبيوترات محمولة في حالة عمل على أفخاذهم، بينما يجلس القسم الآخر من دون وضع الجهاز على أفخاذهم.
في التجربة ازدادت سخونة السطح الأسفل للكومبيوتر المحمول إلى درجة حرارة بلغت 104 فهرنهايت تقريبا (40 درجة مئوية) في نهاية فترة ساعة من الزمن، وبالتأكيد، ارتفعت درجة حرارة الصفن لدى المتطوعين الجالسين مع الكومبيوترات المحمولة العاملة، بمقدار درجة واحدة فهرنهايت (0.55 درجة مئوية).
لقد أظهرت هاتان الدراستان أن الحرارة الخارجية التي تولدها الأجهزة الكهربائية - التي نتعامل معها من دون أي إدراك لمخاطرها - بمقدورها توليد زيادة ملموسة في درجة حرارة الصفن. كما أنهما تذكراننا بأن الجلوس لساعة أو أكثر من دون أي حركة، يؤدي إلى زيادة درجة حرارة الصفن، ولو بمقدار أقل.
إلا أن هاتين الدراستين القصيرتين لم تقيما عدد الحيامن، وجودة السائل المنوي، أو الخصوبة. ولكن أبحاثا أخرى تفترض أن تسخين الصفن قد يؤدي إلى عواقب سيئة للخصوبة. ولذا فإن على الرجال الذين يعانون من مشكلات الخصوبة التفكير بحكمة، وتجنب الظروف التي تؤدي إلى زيادة درجة حرارة الصفن لديهم.
* رسالة هارفارد «مراقبة صحة الرجل».
خدمات «تريبيون ميديا».




الاثنين، 18 يناير 2010

أبعاد استراتيجية وعلمية في نزاع «غوغل» والصين و«ميليشيا حرب المعلوماتية» هتكت سرّ الـ«أف - 35»


أبعاد استراتيجية وعلمية في نزاع «غوغل» والصين و«ميليشيا حرب المعلوماتية» هتكت سرّ الـ«أف - 35»
الثلاثاء, 19 يناير 2010
أحمد مغربي -المصدر صحيفة الحياة
للوهلة الأولى، يسهل التبسيط. يسهل القول مثلاً إنها غضبة حق لمحرك البحث الأشهر «غوغل» في وجه سلطان الحزب الشيوعي الصيني الجائر. ولا يصعب القول أيضاً ان تلك المنازعة تعطي نموذجاً من الصراع بين قوى العولمة ومؤسسة الدولة، خصوصاً في بلد صاعد مثل الصين. لقد قيل كلام كثير عن ذلك التنازع، وسال الحبر مدراراً عن الصدام بين التحديث الفائق (وضمنه صعود هائل للفردية والحرية) الذي تحمله شبكة الإنترنت، وبين دولة ذات تاريخ قمعي عريق، يمتد من الوصف الدائم لشيوعيي بيجين بأنهم أباطرة فعلياً، ويمرّ عبر مسلسل متصل من قمع الإثنيات والعرقيات والمذاهب الدينية في بلاد النهر الأصفر، ولا ينتهي عند القمع الدموي في تيانانمين (1989) ومجموعة «فالون غونغ» وشعب التيبت البوذي، ومسلمي الأويغور وغيرها. وفي هذا السياق، يبدو «جدار الصين» الإلكتروني العظيم، في إشارة الى الرقابة الثقيلة التي تفرضها الدولة الصينية على الإنترنت، الذي يستهدف خنق أصوات المعارضة (أو المعارضات) الصينية على الإنترنت. في هذه الترسيمة، تبدو الصين وكأنها تكرر، على قياس أكبر، ما فعلته السلطة الإيرانية من قمع إلكتروني وشبكي، عزز من قبضتها الحديدية على الاضطرابات التي اندلعت بعد الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل فيها. يغري ذلك القول، لأنه يستند الى الكثير من الوقائع. والأرجح ان الكلام عن التنازع بين «غوغل» والصين بهذه الطريقة، يصف الكثير من الوقائع بينها. لكن، هل هذا كل شيء؟ هل يمثّل الصراع بين «غوغل» والصين، جزءاً من حروب الحرية على الإنترنت (الأرجح انه كذلك)، أم ان لهذا المشهد أوجهاً أكثر تشابكاً وتعقيداً؟ ولا يتعارض وصف الأشجار مع وجود الغابة، قياساً على قول معروف، بل ان حرب الحرية على الإنترنت، وكذلك شبكات الخليوي، هي أحد الوجوه البارزة لهذه المنازعة. ولكن التفاصيل تكشف عن شياطينها، بحسب المثل الأميركي الشهير. ثمة من يسأل لماذا انتظر «غوغل» 4 سنوات، كي يتحرك ضد الرقابة الصينية على نشاطات فرعه فيها (يشتهر باسم «غوغل.سي ان» google.cn). وهناك من لاحظ ان الحكومة الصينية أبدت الكثير من البرودة حيال خطوة «غوغل»، بحيث لم تتردد تشانغ يو الناطقة بلسان وزارة الخارجية الصينية، بالقول: «نرحب بمن يعمل ضمن القانون... الإنترنت حرّة... والحكومة الصينية تشجّع تطوير شبكة الإنترنت»! والمعلوم ان «غوغل» لا يحوز سوى ثلث سوق البحث على الإنترنت، في ما يحوز منافسه الصيني «بايدو» Baidu أكثر من ستين في المئة من تلك السوق التي وصلت قيمتها الى بليون دولار في 2009. آزر موقع «ياهوو» نظيره «غوغل»، لكن شريكه الصيني «علي بابا»، الذي يعتبر أقوى بوابة للتجارة الإلكترونية عالمياً، وصف خطوة «ياهوو» بأنها متهوّرة. ولم تؤيد «مايكروسوفت» خطوة منافسها «غوغل». وسرعان ما راج أن ثغرة أمنية في نُظُم «ويندوز» (تنتجه مايكروسوفت) ساهمت في انكشاف المواقع أمام هجمات إلكترونية يُعتقد انها مُدبّرة من الحكومة الصينية، شملت «غوغل» وشركات أخرى. ونصحت ألمانيا مواطنيها بعدم استخدام محرك البحث «اكسبلورر» الذي تصنعه «مايكروسوفت».
أبعد من «غوغل»
هل وراء أكمة ذلك النزاع ما وراءها، خصوصاً إذا لوحظت السرعة التي ساندت فيها الحكومة الأميركية «غوغل»؟ من المستطاع البدء في الإجابة بالرجوع الى المُدوّنة الإلكترونية الرسمية التي خصصها محرك البحث «غوغل» لشرح مقاربته الجديدة مع الصين. وأول ما يلفت في المدوّنة ان الأمر لم يقتصر على مواقع المعارضة الصينية، بل ان الحكومة الصينية جمعت معلومات تقنية متطورة عن الإنترنت والاقتصاد الرقمي والإعلام و... الكيمياء! لماذا الكيمياء؟ وهل لذلك علاقة بتقدّم بحوث النانوتكنولوجيا Nanotechnology (وهو قلب في علوم المستقبل) في الصين؟ هل يتعلق الأمر أيضاً بسعي الصين للحصول على معلومات علمية وتكنولوجية واستراتيجية واستخبارية وعسكرية؟ الأرجح أنه أمر متشابك.
ففي المُدوّنة عينها، ينصح «غوغل»، بالعودة إلى تقرير لجنة الكونغرس عن العلاقة الأميركية ـ الصينية United States China Committee، مع تحديد الصفحات الأكثر صلة بذلك القرار. وتحيل مُدوّنة «غوغل» على الفصل الذي يتحدث عن الجاسوسية المعلوماتية للصين وآثارها على أمن الولايات المتحدة واقتصادها.
ويفتتح ذلك الفصل، الذي يمكن الوصول إليه عبر وصلة إلكترونية في مُدوّنة «غوغل» الإلكترونية، على الكلمات الآتية: «الإملاءات الإقليمية والاقتصادية: - تعاني العلاقة المثلثة الأضلاع، في الأمن والاقتصاد، بين الولايات المتحدة والصين وتايوان، من أمور تشمل تحديث السلاح ورفع مستوى توظيف القوات الصينية، وهي أمور موجّهة دوماً ضد تايوان، والموازنة الضخمة للصين، والاستقرار المالي فيها...».
ويلفت التقرير إلى ان الرئيس باراك أوباما، اعتبر في أيار (مايو) 2009، «الهجمات المؤذية» في الفضاء الافتراضي، التي تستهدف الشبكات العسكرية والأمنية والمعلوماتية والاتصالاتية للجيش والمؤسسات الاستخبارية في الولايات المتحدة، التحدي الأكثر أهمية للاقتصاد والأمن القومي.
(يستعمل التقرير مصطلح «الهجمات الشريرة» Malicious Attacks في وصفه الهجمات على الشبكات الرقمية التي تحتوي معلومات ذات طبيعة حسّاسة أمنياً وعسكرياً وعلمياً، ما يذكّر بمصطلحات الأيديولوجيا الدينية المتطرفة للمحافظين الجُدّد الذين هيمنوا على البيت الأبيض أيام جورج دبليو بوش).
ويُذكّر التقرير عينه بأن جويل برِنر، المدير السابق لـ «المكتب القومي لمكافحة الجاسوسية»، وصف الصين بأنها المصدر الرئيسي لهجمات إلكترونية مُكثّفة على الولايات المتحدة، مُعطياً نموذجاً على ذلك اضطرار مكتب وزير الدفاع، في زمن قريب، إلى قطع الاتصال مع الإنترنت لمدة أسبوع كي يتّقي هجمات يصعب صدّها جاءت من الصين. ويورد التقرير ان عامي 2007 و2008 شهدا هجمات صينية عبر فضاء الإنترنت سعت للدخول على نُظُم التعاقد بين البنتاغون والشركات الكبرى، وأنها نجحت في نسخ بضعة تيرابايت Terabytes (التيرابايت يساويألف غيغابايت) من المعلومات الدقيقة والسرية عن طائرة الفانتوم المُقاتلة من نوع «أف - 35» F - 35 (تشتهر باسم «البرق 2» Lightning II) وهي الأحدث أميركياً وعالمياً، خصوصاً عن نظم الاتصال والمعلوماتية في تلك الطائرة المتطوّرة التي يراهن عليها سلاح الجو الأميركي. ويميل التقرير إلى تحميل الصين مسؤولية تلك الهجمات باعتبار أنها نُفّذت إما بإشراف حكومي أو عِبر مجموعات ذات صلة مع حكومة بيجين. ويشير إلى أن «الهجمات المؤذية» في الفضاء الافتراضي تملك القدرة على إصابة النُظُم الإلكترونية المالية والتجارية والبنكية، وعلى انتهاك سرية المعلومات الأمنية والعسكرية والاستخبارية، وكذلك نُظُم الدفاع الحساسة. ويُذكّر بأنه في أيار 2008، رفع الكولونيل غاري ماك آلوم، قائد أركان «القيادة الاستراتيجية المشتركة للعمليات العالمية عبر الإنترنت» تقريراً أشار فيه إلى تصاعد مطرد لهذا النوع من «الهجمات المؤذية». ويورد ان ماك آلوم بيّن أن عدد تلك الهجمات فاق 43 ألفاً في 2007، مع ملاحظة أن تقارير لاحقة رفعت العدد عينه إلى 54,6 ألفاً في عام 2008، بزيادة تقارب العشرين في المئة. وسجّل عام 2009 زيادة لامست الـ60 في المئة، إذ وصل العدد عينه إلى قرابة 87,4 ألف هجمة. وبحسب تقرير لجنة الكونغرس عن العلاقات الأميركية - الصينية نفسه، تكلّفت الولايات المتحدة قرابة 200 مليون دولار، لمجرد التصدي لهذه الهجمات الافتراضية!
ويلاحظ تقرير هذه اللجنة أيضاً ان البيت الأبيض بادر في نيسان (أبريل) 2009، بعد شهور قليلة من تولي أوباما الرئاسة، إلى استحداث منصب مرجعي حكومي هو «مُنسّق الأمن في الفضاء الافتراضي (السبرنطيقي)» Cyber Security Coordinator، الذي حاز بسرعة لقب «قيصر السبرنطيقي» Cyber Czar، وأعطته صلاحيات مركزية قوية كي يقود عملية شاملة «من الأعلى إلى الأسفل» لتنسيق جهود المؤسسات الحكومية في فضاء الإنترنت، وكذلك كي يرفع توصيات عن الأمن الرقمي وسياساته.
الأذرع الثلاث لمقاتلي المعلوماتية في الصين
يقتبس تقرير لجنة الكونغرس عن العلاقة الأميركية ـ الصينية، الذي يستند إليه محرك «غوغل» لوصف صِدامه مع الصين، عن دراسة لشركة «نورثروب غرومان» Northrop Grumman (وهي عملاق صناعة الأسلحة التي يستعملها الجيش الأميركي)، تجزم بأن الصين تستغل قدراتها المتقدمة في مجال الشبكات الرقمية للحصول على معلومات دقيقة ومُعمّقة عن نُظُم الكومبيوتر التي يستعملها الجيش والاستخبارات الأميركية وشبكات الاتصالات التي يعتمدان عليها، إضافة إلى معلومات عن عمليات الجيش وأجهزة الاستخبارات الأميركيين. ويصف التقرير قدرات الصين في الحصول على المعلومات السرية الأميركية بأنها تفوق قدرات جماعات قراصنة الكومبيوتر في العالم مجتمعة. ويشير إلى صعوبة الحصول على معلومات حاسمة عن تورّط مباشر للحكومة الصينية، وخصوصاً «جيش التحرير الشعبي»، في تلك الهجمات. ويُذكّر التقرير بأن الصينيين طالما أبدوا إعجابهم بالقدرات الإلكترونية المتطوّرة للجيش الأميركي، والتي ظهرت في تمكّنه من شلّ شبكات الاتصالات والرادار أثناء حربي كوسوفو (1999) والعراق (2003)، وأن جدالاً علنياً دار في بيجين عن ضرورة امتلاك قدرات مماثلة لما يحوزه الجيش الأميركي في مجال الشبكات واختراقها وتعطيلها والسيطرة عليها.
ويبدي التقرير دهشته لدرجة العلانية التي أجريت فيها هذه النقاشات، بحيث ظهرت في المجلات والصحف اليومية، خصوصاً تلك التي يُصدرها «جيش التحرير الشعبي»، ما يتناقض مع ميل الحكومة الصينية إلى التكتم في هذه الأمور، مُشيراً إلى أن الحكومة لم تُعلن استراتيجية واضحة في مجال القدرات العسكرية الإلكترونية، ولم تصدر توجيهات مُعلنة في هذا الخصوص. ويقتبس التقرير من منشورات «جيش التحرير الشعبي» مفهوم «العمليات العسكرية الإلكترونية الشبكية المتكاملة» Integrated Network Electronic Warfare الذي يدمج العمليات الإلكترونية التقليدية، مثل تعطيل شبكات الرادار والتشويش على موجات الراديو وتعطيل شبكات البث المتنوّعة وتشويش الاتصالات الهاتفية والخليوية، مع عمليات اختراق الشبكات الرقمية. ويوضح ان هدف هذه العمليات المتكاملة هو توجيه مروحة واسعة من العمليات ضد العدو، بهدف إحداث شلل في قيادته وحواسيبه وشبكاته واتصالاته ونُظُمه في الاستخبارات والاعتراض والتصدي والحصول على المعلومات. ويعلن التقرير أن الدائرتين الثالثة والرابعة في «جيش التحرير الشعبي» في الصين، اللتين تنهضان تقليدياً بنظم الإشارة والاتصال والتشويش، هما الدائرتان اللتان تديران الهجمات في الإنترنت المتصلة بـ «العمليات العسكرية الإلكترونية الشبكية المتكاملة».
وفي تفصيل مثير، يفيد التقرير أن «جيش التحرير الشعبي» عمد إلى تشكيل «ميليشيا حرب المعلومات» Information Warfare Militia، منذ أواخر التسعينات في القرن الماضي، وتضم مدنيين من القطاعين الأكاديمي والتجاري، مهمتها الحصول على معلومات تفيد العمليات المعلوماتية للجيش الصيني. وقد ظهرت الوحدة الأولى لهذه الميليشيا في مدينة «داتونغ» في إقليم «شانكسي» في 1998. وفي عام 2008، وصل عدد وحدات «ميليشيا حرب المعلومات» إلى 33 وحدة، تتوّزع على الجامعات ومراكز البحوث الحكومية وشركات المعلوماتية. ويصف التقرير هذه الميليشيا بأنها تتكون من عناصر شابة (دون الـ45 من العمر)، لها خبرة قوية في المعلوماتية اكتسبتها عِبر عملها في شركات مدنية تعمل في التكنولوجيا الرقمية، وكذلك فإنها تعرف لغة أجنبية أو أكثر كي يسهل عليها جمع المعلومات، إضافة إلى العناصر التي تأتي من المجال الأكاديمي. ويضيف التقرير عينه بأن الذراع الثالثة التي يعتمد عليها الجيش الصيني في عملياته المعلوماتية، تتمثّل في مجموعات يُطلق عليها التقرير وصف «قراصنة الكومبيوتر الوطنيين» Patriotic Hackers، كما يسميها أحياناً «الهاكرز الحُمْر» Red Hackers. ويشير التقرير عينه إلى أن هؤلاء يحرّكهم الشغف باختبار قدراتهم في المعلوماتية والتباهي بها، إضافة إلى مرارة وطنية ضد أميركا. ويلاحظ التقرير ان نشاط مجموعات «الهاكرز الحُمر» تتصاعد في فترات التأزّم في العلاقات الأميركية الصينية، كما حدث أثناء قصف القنصلية الصينية في صربيا (1999) من قِبل سلاح الجو الأميركي، وعند التصادم المحدود بين سفينتين حربيتين تابعتين للأسطولين الأميركي والصيني في عام 2001. وفي نظرة سريعة إلى التقرير، يُلاحظ مدى التداخل بين النشاطات المدنية والعسكرية في مجال المعلوماتية والشبكات الرقمية. وإذا كان الأمر واضحاً بالنسبة الى الصين، فإنه ليس بأقل وضوحاً بالنسبة الى الولايات المتحدة أيضاً. فقد استند التقرير، في أجزاء كبيرة منه، إلى دراسة أعدتها شركة مدنية تجارية، هي «نورثوب غرومان» عن القدرات العسكرية للجيش الصيني في مجال حرب المعلوماتية.
وتثير هذه الأمور أسئلة كثيرة عن عمق التداخل فعلياً بين الشركات المدنية في المعلوماتية عموماً، والأجهزة العسكرية والاستخبارية، كما تلقي كثيراً من الظلال الرمادية، المملؤة بالأسئلة المقلقة، عن أبعاد النزاع المتشابك الذي تقف على إحدى ضفتيه «غوغل» والحكومة الأميركية، وتتمترس الصين على ضفته الأخرى!
amoghrabi@alhayat.com

الأحد، 10 يناير 2010

البرد القارس.. مشكلاته الصحية و«فوائده


البرد القارس.. مشكلاته الصحية و«فوائده»

يزيد الأمراض القاتلة ولكنه ينشط الدهون البنية المفيدة

كمبردج (ولاية ماساتشوستس الأميركية): «الشرق الأوسط»*

* البرد القارس يشكّل عبئا على صحة الإنسان، إلا أنه، كما يقول المثل، «كل غيمة مدلهمة، يحدّها خط فضي من الضياء»!

* محاسن الشتاء

* الشتاء ودرجات حرارته المتدنية، يشكل نقمة ونعمة للإنسان وصحته. وقد لا يقدر الإنسان أهمية أن درجات الحرارة المتدنية، إذ إنها تقدم خدمة كبيرة بقضائها على الحشرات، والأجسام الحية المتناهية الصغر، الناقلة للجراثيم. كما أن الشتاء، ومن الناحية النظرية، قد يسهم في الرشاقة وذلك بتحفيزه على تنشيط الدهون البنية اللون، وهي الدهون النشطة في عمليات التمثيل الغذائي (الأيض). وفي الدول الإسكندنافية وروسيا ينتظر الكثيرون البرد، لكي يسبحوا في المياه المتجمدة التي يقال إنها تُحدِث معجزات صحية، وفقا لافتراضات يطرحها عدد ضئيل من الباحثين.

* جانب الشتاء المظلم

* إلا أن هناك جانبا مظلما للشتاء ينبغي اعتباره، فقد أظهر عدد من الدراسات أن معدلات الوفيات تزداد في أثناء هذا الفصل من السنة. كما أن ضغط الدم يزداد أيضا. ووفقا لبعض التخمينات فإن ازدياد عدد الوفيات بنسبة 70 في المائة خلال الشتاء يعود إلى حدوث النوبات القلبية والسكتات الدماغية وأمراض القلب والأوعية الدموية الأخرى في أثناء هذا الفصل. وبالطبع فإن الإنفلونزا الموسمية تنتشر في هذا الفصل، وتنتقل فيروسات الإنفلونزا عندما يكون الجو باردا وجافا.

أما الظلام الشتوي فإنه يجعل الأمور أكثر سوءا. فتعرض الجلد للشمس يؤدي إلى إنتاج فيتامين «دي»، الذي يبدو أنه يقدم شتى الفوائد الصحية. وخلال الشتاء عندما يكون النهار أقصر وتكون الشمس مائلة بزاوية صغيرة، تصبح مستويات هذا الفيتامين قليلة في الجسم. والإحساس بالبرد مع النقص في فيتامين «دي» قد يسبب المشكلات.

* ارتعاشات البرد

* عندما لا يكون الجو باردا جدا، فإن جسم الإنسان يتكيف جيدا مع درجات الحرارة. إلا أنه عندما يتلامس الجسم مع الجو أو الماء البارد فإن شبكة الأوعية الدموية الموجودة في الجلد، تتقلص. ولذا يوجه الدم بسرعة نحو داخل الجسم. وتضيف استجابة الجسم هذه قوة عزل لحماية الجلد، لأنه يفقد حرارة أقل بعد تقليل تدفق الدم قرب سطح الجسم الملامس للجو أو الماء. كما أنه يحمي الأعضاء الحيوية من درجات الحرارة المتدنية.

إلا أن الإنسان يدفع ثمن إعادة توجيه الدم، فهي تؤدي إلى قلة تدفقه إلى أصابع اليدين والقدمين والأجزاء المحيطية من الجسم (الأنف والأذن)، التي تكون مهددة بـ«عضة التجمد»، الذي يظهر عندما تتجمد السوائل داخل الأنسجة وحولها. وفي الأحوال السليمة فإن الأوعية الدموية في الجلد تفتح ثم تغلق في نسق متذبذب، بحيث تزداد درجة حرارة الجلد مؤقتا، خصوصا في أطراف الأصابع.

كما أن الارتعاشات هي وسيلة دفاعية معروفة مضادة لانخفاض درجة حرارة الجسم. فالتقلصات العضلية الإيقاعية السريعة التي تحدث في أثنائها، تمنح الجسم الحرارة، الأمر الذي يساعد كل الجسم على البقاء دافئا. كما يستطيع الجسم توظيف عضلات أكثر فأكثر عند انخفاض درجات الحرارة. وهنا قد تصبح الارتعاشات قوية وغير مريحة. أما الحركات الإرادية مثل الدبدبة أو «الطبطبة» بالقدمين، وأرجحة اليدين، فهي وسيلة أخرى لتوليد الطاقة. ووفقا للظروف، فإنها قد تعوض عن حدوث ارتعاشات الجسم. إلا أن الجسم لا يجني فائدة كلّية تامة من هذا لأن التمارين الرياضية تزيد من تدفق الدم إلى الجلد، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الجسم لحرارته.

* شكل الجسم

* ويفسر شكل الجسم بعض ردات الفعل المتنوعة تجاه الأجواء الباردة، فالأشخاص الأكثر طولا يحسون بالبرد أسرع من القصار لوجود مساحة أكبر لسطح أجسامهم التي قد تفقد حرارة أكثر. كما أن سمعة الدهون بوصفها مواد عازلة، لا تشوبها شائبة، ولكن يفضل أن يكون لديك في فصل الشتاء شحم يغطي كل الجسم بدلا من تغطيته لمنطقة واحدة مثل الكرش ومنطقة البطن! ويقضي أغلبنا الشتاء وهو يحاول البقاء دافئا، إلا أن التعرض للبرد قليلا لا يعتبر ضارا. وقد طرحت بعض الافتراضات، مثلا، التي تقول إن درجات الحرارة المتدنية باعتدال، قد تكون مفيدة للأوعية الدموية لأنها تمرن الأوعية الدموية في الجلد على الاستجابة، وعلى ردود الفعل (وتضاف إلى ذلك فائدة أخرى: تورُّد الخدين)!

* الدهون البنّية * الدهون البنية brown fats هي الدهون المولدة للحرارة، الحارقة للسعرات الحرارية التي يحتاجها الطفل الصغير لتنظيم درجة حرارة جسمه. ويختفي أغلب هذه الدهون مع العمر، إلا أن فحوصا شعاعية بجهاز الانبعاث البوزيتروني للتصوير «PET» قد أظهرت أن البالغين يحتفظون ببعض الدهون البنية. وقبل سنوات أفاد باحثون فنلنديون أن الأشخاص العاملين في المواقع المفتوحة لديهم كميات أكثر من الدهون البنية مقارنة بالعاملين في المواقع المغلقة. كما أفاد باحثون هولنديون في دراسة نشرت في مجلة «نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسن» عام 2009 بأن نتائجهم أظهرت أن أجواء بدرجات حرارية معتدلة مقدارها 61 درجة فهرنهايت (16 درجة مئوية) أدّت إلى تنشيط الدهون البنية لدى 23 من أصل 24 متطوعا. لكن أيا منا لا يقترح توظيف الطقس البارد لأغراض الحمية الغذائية (حتى الآن على الأقل). ومع ذلك، وعندما تجد نفسك في جو بارد هذا الشتاء، تذكر أنك تقوم على الأقل بحرق بعض الخلايا من تلك الدهون البنية.

* العلاج بالبرد

* وتؤخذ وسائل «العلاج بالبرد» للأغراض الطبية، بجدية في بعض الدول. فقد طور باحثون يابانيون وسيلة «تجميد كامل البدن» (Whole-body cryotherapy) بهدف علاج الآلام والالتهابات الناجمة عن أمراض الروماتيزم والأمراض الأخرى. وللعلاج، يقضي المرضى دقيقة إلى ثلاث دقائق في حجرة تبلع درجة حرارتها 166 فهرنهايت تحت الصفر (110 درجة مئوية تحت الصفر).

وفي فنلندا وروسيا وغيرهما، يقول الكثير من المولعين بالسباحة شتاء إن لها بعض الفوائد. وقد تحدث باحثون فنلنديون قبل عدة سنوات عن دراستهم على 10 نساء من اللاتي كن يغطسن في غضون ثلاثة أشهر في المياه الباردة (لمدة 20 ثانية في ماء تزيد درجة حرارته قليلا عن نقطة التجمد)، وعرضن كل جسمهن لجلسات التبريد. ولم تظهر تحاليل الدم أي ملاحظات جديرة بالاهتمام، عدا ارتفاع بمقدار مرتين إلى ثلاث مرات في مستويات «النوربينيفرين» بعد دقائق من الغطس البارد. والنوربينيفرين هو مادة كيميائية في الجهاز العصبي تلعب الكثير من الأدوار ومنها دور محتمل في كبح الآلام (وقد تفسر قفزات مستوى النوربينيفرين أيضا ارتفاع ضغط الدم في الطقس البارد).

* أمراض الشتاء

* وقد وثقت الأبحاث على مدى عقود، حقيقة ارتفاع ضغط الدم في أثناء الشتاء. وآخر ما تم التوصل إليه بهذا الشأن الدراسة التي أجراها باحثون فرنسيون عام 2009 وأظهرت أن ارتفاع ضغط الدم الانقباضي (وهو القراءة العليا له) المرتبط بالطقس البارد، كان ملاحظا بقوة لدى الأشخاص من أعمار 80 سنة فأكثر. وقد يحفز الطقس على استجابات «الكفاح» أو «الهروب»، إذ يرتفع ضغط الدم بسبب ازدياد سرعة ضخ القلب للدم ولذا تتشنج الأوعية الدموية.

الطقس البارد يرتبط أيضا مع ازدياد الأمراض التنفسية، ومنها الإنفلونزا. وقد أظهرت الأبحاث أن موجات البرد ترتبط بازدياد في أعداد الوفيات الناجمة عن الأمراض التنفسية. وقد يرتبط بعض هذه الأمراض بأجسام حية حاملة للعدوى مثل فيروسات الإنفلونزا التي تنتعش في ظروف البرد، كما أن هناك أيضا دلائل على أن التعرض للبرد يكبح نشاط جهاز المناعة، الأمر الذي يساعد على ازدياد فرص العدوى. وقد فندت دراسة نشرت في مجلة «نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسن» في السبعينات من القرن الماضي، الاعتقاد بأن نزلات البرد الشائعة ترتبط بالتعرض للجو البارد، إلا أن الباحثين البريطانيين المختصين بنزلات البرد يعتقدون في وجود صلة بين البرد ونزلات البرد. وتشير فرضيتهم إلى أن تدفق الهواء البارد نحو ممرات الأنف، يزيد احتمال الإصابة بالعدوى لأنه يحطم الاستجابات الموضعية لجهاز المناعة.

* رسالة هارفارد الصحية، خدمات «تريبيون ميديا»

الخميس، 7 يناير 2010

البنزين ومخاطره على صحة الإنسان


البنزين ومخاطره على صحة الإنسان

بقلم: عادل الدغبشي - اليمن

يتعرض الإنسان في حياته اليومية لعدد كبير من المواد الكيميائية التي تدخل إلى جسمه سواء عن طريق طعامه أو شرابه أو تنفسه أو عن طريق ملامسته لتلك المواد.

ويعد البنزين ( الجازولين ) من احد أهم المواد الكيميائية الواسعة الانتشار والتي يمكن أن يتعرض الإنسان لها في حياته اليومية، سواء عن استنشاق أبخرتها بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر من خلال المصادر التي تحتوي على كميات عالية من البنزين، كما يحصل داخل المنازل عند التدخين أو استخدام الصمغ الصناعي في تثبيت السجاد أو من طبقة الأثاث اللامعة أو من المذيبات الصناعية، وحتى في مواقف السيارات أو الأماكن ذات الكثافة العالية من أبخرة عوادم السيارات أو المصانع القريبة.

لذا هل ندرك ما معنى أننا نستنشق البنزين يوما، وما هي المخاطر الصحية المترتبة على ذلك؟

مستشار الأمان والسلامة المهنية، الدكتور عبد الصمد الحكيمي، يؤكد "أن البنزين يتسرب إلينا من كل هذه البوابات ليأخذ طريقه إلى الدم، ومنه يسري إلى أنحاء الجسم لتختزن كميات منه في نخاع العظم وفي الأنسجة الشحمية".

ففي ورقة العمل التي قدمها خلال "المؤتمر العلمي الأول حول إصابات العمل"، الذي نظمه مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا مؤخرا، قال الحكيمي: "إن البنزين يدخل الجسم إما عبر استنشاق الهواء الملوث ومن ثم إلى الرئة، وإما إلى الجهاز الهضمي عبر شرب الماء الملوث، وإما عبر الجلد حينما يلامس المواد المحتوية على البنزين". ويرى الحكيمي، أن المشكلة تأتي حينما تتحلل مركبات البنزين في الجسم، خاصة في الكبد ونخاع العظم لتنتج عنها مواد ضارة أخرى، تبقى في الجسم مدة قصيرة أي حوالي يومين ليتم بعد هذا إخراجها مع البول". ويتابع:" لو نظرنا إلى الأمر بشكل أدق نجد أن أهم مصادر تعرض الفرد العادي في الدول الغربية كالولايات المتحدة للبنزين هي تدخين سجائر التبغ، إذْ تمثل نسبة 50 بالمائة منها، أما عوادم السيارات ومن المصانع فتمثل 20 بالمائة فقط. والكمية التي تدخل الجسم لدى من يُدخن 32 سيجارة يومياً هي حوالي 1.8 ملغم، أي عشرة أضعاف ما يتعرض له الشخص غير المدخن والذي يعيش في نفس البيئة".

أضرار كبيرة:

هناك عوامل تحدد مدى احتمال تعرض المرء لآثار البنزين الصحية بعد دخوله الجسم، لعل أهمها – بحسب الحكيمي- هي الكمية المتناولة وطول مدة التعرض له، فكلما طالت مدة التعرض ظهرت الآثار الصحية الضارة وإن كانت الكمية ضئيلة نسبياً، وكلما ارتفعت كمية البنزين في الهواء المستنشق ـ أي حوالي 10,000 إلى 20,000 (PPM) ولو لوقت قصير لا يتجاوز الخمس أو العشر دقائق فإن الآثار قد تصل إلى حد الوفاة.

كما أن التعرض المفاجئ لكميات أقل ـ أي حوالي 700 إلى 3000 (PPM) قد يؤدي إلى الدوخة وتسارع نبضات القلب والتشويش الذهني والنعاس وربما فقدان الوعي. كما أن تناول مأكولات أو مشروبات ملوثة قد يسبب قيئاً أو حرقةً في المعدة إضافة إلى الأعراض المتقدمة على الدماغ والوعي، كما أن وقوع البنزين على الجلد يسبب احمراراً وتسلخا جلديا، وأما على العين فقد يسبب تلفاً في القرنية وأجزاء العين الخارجية الأخرى.

فالبنزين أحد أبرز الهيدروكربونات العطرية المكونة للغازولين التي تؤثر على صحة الإنسان، و ينتج عن الغازات المنبعثة من عوادم السيارات والأبخرة في محطات الوقود، أو ما يتسرب من خزانات الوقود، وكذلك دخان السجائر. كما يستخدم البنزين كمادة مذيبة في العديد من الصناعات مثل صناعة البلاستيك والنايلون واللواصق والغراء والألياف الصناعية والمواد المُلمعة والأصباغ والمبيدات الحشرية والمذيبات الصناعية وحتى الأدوية. أما المصادر الطبيعية للبنزين فهي الغازات المتصاعدة في أبخرة البراكين وفي حرائق الغابات. وأكثر الناس تعرضاً له، العاملون في الشحن وإصلاح السيارات وصناعة الأحذية وتكرير وتصدير النفط.

كما أن للرصاص الموجود في البنزين، تأثيرات سلبية كبيرة وخطيرة جداً أهمها فقر الدم، التهاب مزمن للكلى قد ينتج عنه فشل كلوي، صعوبة في التخلص من حمض البوليك والإصابة بالنقرس، التهاب في الكبد قد يتطور إلى تليف كبدي ودوالي في المريء، ثم ارتفاع في حموضة المعدة والاثنى عشر، وقد تنتهي بغيبوبة كبدية؛ كما يؤثر الرصاص على المخ والجهاز العصبي المركزي والجهاز العصبي المحيطي، فيظهر شعور بالإرهاق والخمول وتوتر زائد والتهاب في الأعصاب. أما بالنسبة للرئتين فإن الرصاص يحدث تهيجا في أغشية الشعب الهوائية فتحدث حالات ربو ونزلات شعبية، وأحياناً يحدث تليف للقلب.

بالإضافة إلى أن للرصاص تأثيرا كبيرا على الأطفال والحوامل نظراً لقابليتهم المرتفعة لامتصاصه، وبطء إخراجه والتخلص منه، وحساسية الجهاز العصبي المركزي الشديدة لهذا النوع من التلوث أثناء نمو وتطور الطفل خاصة في السنوات الخمس الأولى من عمره.

وبسبب ترسب الرصاص في المخ وما يحدثه من إعاقة لنمو خلايا المخ وباقي الجهاز العصبي، فقد يظهر على صغار الأطفال نقص في معدلات الذكاء (IQ) مع صعوبة في التركيز قد تصل بهم إلى حالة تخلف عقلي. كذلك فإن النمو العام للطفل يتأثر بذلك، حيث أظهرت الدراسات أن ارتفاع معدلات الرصاص عند الحوامل أدى إلى نقص أوزان أجنتهن، وقد ينتج عنه ولادة أطفال متخلفين عقلياً أو مشوهين.

إضافة صورة

التدابير اللازمة:

ويرى الأطباء أن من التدابير التي يجب علينا أتباعها لتلافي الإصابة بالتسمم والتلوث، الناجمة عن استنشاق البنزين، تقليل التلوث البيئي الهوائي مهمة عامة ومسؤولية جماعية تشترك فيها الدولة والمؤسسات والأفراد.

وقد طرحت بعض الجمعيات الطبية المهتمة عددا من الإجراءات المهمة التي تجدر مراعاتها لتقليل تلوث الهواء وتخفيف تأثيره مثل: توعية الناس عن تلوث الهواء ومصادره الأساسية وتأثيره في البيئة والصحة، وإدخال موضوع البيئة ضمن المنهج الدراسي، وتنظيم برامج تدريبية، وتثقيف المجتمع من خلال التلفزيون والنشرات الإعلامية. إلى جانب تقليل الازدحام داخل المدن، وتشجيع استخدام النقل العام. وتحديد السرعة على الطرق. وتشجيع استخدام البنزين الخالي من الرصاص، بالإضافة إلى إجراء فحص دوري للمحركات السيارات.

ونظراً للدور الهام الذي يلعبه الغطاء النباتي عموماً، والأشجار بشكل خاص في تنقية الهواء والتقليل من تأثير ملوثاته، فإنه من الضروري منع قطع الأشجار، وإعادة تشجير المناطق القابلة للزراعة، وإنشاء الحدائق العامة داخل المدن وحول المناطق الصناعية، مما يعود بالتأثير الإيجابي على صحة الإنسان ونشاطه.

عن الوكالة العربية للأخبار العلمية

الاثنين، 4 يناير 2010

تكنولوجيا المعلومات وتطور العلم من منظور الثقافة العلمية

تكنولوجيا المعلومات وتطور العلم من منظور الثقافة العلمية
الدكتور / نبيل عــلي

كل عصر جديد يعني علما جديدا، ويكاد عصر المعلومات يشطر مسار تطور العلم إلى شطرين: ما قبل عصر المعلومات وما بعده. إن العلم وفلسفته بصدد نقلة نوعية حادة تفوق بكثير تلك النقلة التي شهدها عصر النهضة، والتي عاب عليها البعض أنها قامت بإعادة ولادة الحقائق القديمة أي باستعارة المعرفة القديمة، وليس باكتشاف معرفة حديثة.

1 : 1 عصر جديد = علم جديد
إن معرفة عصر المعلومات تكاد تحيل قدرا لا يستهان به من معرفة الماضي وفلسفته إلى نوع من «الفلكلور العلمي» و«الميثالوجيا الفلسفية»، في ذات الوقت الذي تسرع فيه تكنولوجيا المعلومات بانضمام كثير من إنجازات الماضي إلى دنيا المتاحف، وخير شاهد على ذلك ما فعلته هذه التكنولوجيا في عقر دارها؛ فقد شهد تاريخها القصير للغاية، والذي لا يزيد عن نصف القرن إلا بقليل، أجيالا متعاقبة من الكمبيوتر سرعان ما انقرضت، وأجيالا من البرمجيات والروبوتات وصمت بالغباء وبدائية العصور الحجرية، لذا فهي تصبو حاليا إلى أجيال أكثر ذكاء وقدرة على محاكاة قدرات ذهن الإنسان وحواسه.
إن معرفة الحاضر تواجه الأزمات على جميع الجهات، فعلوم الإنسانيات باتت في مسيس الحاجة إلى منهج جديد يخلصها من تبعيتها المنهجية لعلوم الطبيعيات والتي باتت ـ هي الأخرى ـ تواجه أزمة منهجية لا تقل حدة، والتي تعود أساسا إلى عجزها عن تناول ظاهرة التعقد.

1 : 2 علم جديد = فلسفة علم جديدة
كما أسلفنا، سيولد عصر المعلومات علما جديدا، وسيفرز أجناسا جديدة من المعرفة ستغير بصورة جذرية من ملامح النسق العلمي العام: منهجيا وموضوعيا، بل ربما يصل الأمر إلى إعادة تعريف مفهوم العلم ذاته. لقد ركزت فلسفة علم ما قبل عصر المعلومات على نظرية المعرفة دون غيرها من فروع الفلسفة، ساعية إلى رسم حدود ما يمكن أن يعرف، وما هي السبل إلى معرفته، وكلا الأمرين ذو علاقة وثيقة بتكنولوجيا المعلومات، فقد مدت من حدود أفقنا المعرفي ووفرت لنا سبلا عديدة، وغير مسبوقة، لاكتساب المعرفة.
طوت فلسفة القدماء العلم في عباءتها، وظل هكذا إلى أن انفصل عنها بصورة حاسمة على يد إسحاق نيوتن؛ حيث كان كتابه «الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية»، بمنزلة إعلان رسمي لهذا الانفصال، وبالرغم من استقلال العلم عن الفلسفة، فإن صلته بها لم تنقطع؛ حيث أصبحت للعلم فلسفته الخاصة به من جانب، وتزايد تأثير العلم على الفكر الفلسفي من جانب آخر. فمنذ أن طالب جون لوك، صاحب النزعة العلموقراطية، فلاسفة عصره أن يأخذوا في اعتبارهم أثر الاكتشافات العلمية وصلة العلم بالفلسفة تزداد وثوقا بشكل مطرد، وأصبح من الأمور المعتادة ـ حاليا ـ أن نرى كثيرا من الفلاسفة ومنظري الثقافة المعاصرين يلجأون إلى النظريات العلمية كمنهل أساسي لتنظيرهم، فبينما تستعين جوليا كريستيفا ـ على سبيل المثال ـ في نظريتها عن الشعر بنظرية فيزياء الكم (الكوانتم)، يلجأ جاك دريدا في تفكيكيته إلى الرياضيات المنطقية لكورت جودل. وما أكثر هؤلاء المنظرين الثقافيين الذين جعلوا من نظرية المعلومات ونظرية النظم منطلقا أساسيا لجهدهم البحثي.
وفي حاضرنا الراهن، وعصر معلوماته البازغ، تكاد علموقراطية فرانسيس بيكون أن تتحول على يد فرنسوا ليوتار إلى ما يمكن أن نطلق عليه «معلوقراطية» مجتمع ما بعد الصناعة؛ حيث لمح ليوتار في «شرط ما بعد الحداثة» إلى أن العلم لا يستوفي شروط جدارته العلمية إلا إذا دان هذا العلم للمعالجة الآلية بواسطة الكمبيوتر؛ وذلك حتى يكون قابلا للاندماج في الكيان المعرفي الأشمل. بقول آخر: لقد أصبحت المعالجة الآلية الحاسوبية شرطا لعضوية «النادي العلمي». وفي رأي الكاتب أن ما خلص إليه ليوتار لا يخلو من إسراف، فهو يعني بالتبعية أن المعالجة الآلية لا بد أن تغطي كافة المجالات التي تتناولها جميع العلوم: طبيعية كانت أو إنسانية، ونحن ننحاز إلى الرأي القائل إن هناك جوانب عديدة، ستكشف عنها بحوث العلوم الإنسانية، لن تصل إليها اليد الطولى لتكنولوجيا المعلومات.
بصورة تقريبية يمكن تلخيص تطور الفكر الإنساني من منظور العلم في النقلات النوعية التالية:
  • فكر الأسطورة
  • من الميثولوجيا إلى الميتافزيقا
  • مرحلة الفيزياء الكلاسيكية (فيزياء نيوتن)
  • مرحلة فيزياء اللاحتمالية، النسبية وعدم اليقين (فيزياء ماكس بلانك وأينشتين وهيزنبرج)
تنتقل فلسفة العلم حاليا من التمحور حول الفيزياء إلى فلسفة علم قائمة على تعدد التخفيضات، وفي رأى الكاتب تمثل ثلاثية: البيولوجيا الجزيئية، وعلم اللغة والمعلوماتية رأس حربة الفكر العلمي حاليا.
خلاصة القول لقد أظهرت النقلة المعلوماتية أن فلسفة العلم لم تعد رفاهية أكاديمية بل ضرورة لإخراج العلم من أزمته الحالية، ومدى حاجته إلى هداية من الفلسفة، ويزعم الكاتب أن علم عصر المعلومات سيعيد الهيبة لفلسفة العلم بل ربما للفلسفة عامة، وإن كان القرن العشرون قد شهد فئة من «العلماء ـ الفلاسفة» من أمثال برتراند راسل وأينشتين وإرنست ماخ، وإن كان هذا استثناء فيما مضى، فعلى ما يبدو ـ ومع ارتقاء المعرفة الإنسانية ـ لا بد للعالم أن يكون فيلسوفا وللفيلسوف أن يكون عالما، وربما يجوز لنا أن نضيف ولا بد للعالم أن يكون فنانا، وللفنان أن يكون عالما.

1 : 3 علم جديد = ثقافة علمية جديدة
أدت النقلة النوعية لمعرفة عصر المعلومات إلى تغيرات جذرية في الدورة الكاملة لاكتساب المعرفة والتي تشمل المهام الرئيسية التالية:
- النفاذ إلى مصادر المعرفة
- استيعاب المعرفة وتبادلها
- توظيف المعرفة
- توليد المعرفة الجديدة
- إهلاك المعرفة المتقادمة وإحلال المعرفة الجديدة بدلا منها
وقد أدت هذه التغيرات بدورها إلى تغييرات جذرية في منظومة الثقافة العلمية سواء من حيث الغايات أو الوسائل، علاوة على النظر إليها ـ أي الثقافة العلمية ـ بصفتها فرعا أساسيا للتعليم اللارسمي informal education والتعلم مدى الحياة وعلى اتساعها.
في بحثه بعنوان «الثقافة العلمية في الوطن العربي: هل من جديد؟» خلص أسامة الخولي إلى أننا مازلنا دون تعريف واضح، وليس بالضرورة بالغ الدقة، لمصطلح الثقافة العلمية. وما زال الكثيرون يقصرون مفهوم هذه الثقافة على أمور تبسيط العلوم والإلمام بآخر إنجازات العلم والتكنولوجيا ويدرج البعض ضمن هذا ـ أحيانا ـ مظاهر الإعجاز العلمي في القرآن. وينظر الكاتب إلى الثقافة العلمية، استهداء بما أوضحه الخولي، كقضية ذات وجهين، ويقصد بذلك أنها تتطلب تثقيف غير العلميين علميا، وتوعية العلميين ثقافيا، بل وعلميا أيضا. فلا يخفى على أحد أن كثيرا من علمائنا باتوا أنفسهم في حاجة إلى تثقيف علمي يحررهم من أسر تخصصهم الضيق، ويسد فجوات الفراغ الفكري لديهم. وكما هو متوقع، لا يقر هؤلاء العلماء المتخصصون بسهولة بوجود مثل هذا الفراغ الفكري، وغالبا ما يملأونه بمط نطاق تخصصهم العلمي، متخذين منه نوعا من «الأيديولوجيا الشاملة» يفسرون بها العالم من حولهم. ومآل ذلك ـ في النهاية ـ هو الانغلاق في ثقافة أحادية الأبعاد، واختزال العالم ومشكلاته في عدد محدود من المقولات والمسلمات، أو الوقوع في فخ «شبه العلم quasi-science» والسطحية العلمية.
لقد ساد على برامج الثقافة العلمية-التكنولوجية لدينا طابع استعراض آخر الاكتشافات والإنجازات، دون إبراز النواحي التطبيقية لتوظيف هذه الاكتشافات وتلك الإنجازات، إن إثارة الانبهار بالعلم وانجازاته لدى المشاهد العربي سلاح ذو حدين: فمن جانب يعمق لديه نزعة تبجيل العلم واحترام الفكر، ومن جانب آخر يولد لديه الشعور بصعوبة لحاقنا به، أو بانقطاع صلته بواقعنا. نحن في حاجة إلى برامج ثقافية-علمية تخاطب مجتمعاتنا، في نفس الوقت التي تخاطب فيه مستويات العقول المختلفة، وعلى معدي هذه البرامج إدراك الفرق الكبير بين «التبسيط العلمي» و«التثقيف العلمي». فالتبسيط ما هو إلا عنصر واحد في عملية التثقيف التي تشمل بجانبه:
  • ربط العلم بحياة الفرد والمجتمع.
  • إبراز كيفية مساهمة العلم في حل المشكلات القائمة.
  • إلقاء الضوء على تجارب العلماء والخبراء العرب في المجالات العلمية والتكنولوجية.
  • التصدي لمظاهر اللاعلمية وأدعياء العلم وأشباه العلميين.
  • إبراز الجوانب السلبية في المجتمع وحياة الأفراد؛ نتيجة لعدم اتباع أساليب العلم ومناهجه.
  • طرح الآثار الاجتماعية للعلم والتكنولوجيا مثل تلك المتعلقة بعلاقة السلطة الحاكمة بالمواطنين وقضايا الديموقراطية والبيروقراطية، والعمالة الإنتاجية، وصراع الأجيال، وما شابه
ودعنا ننه فنقول إن العالم بات في مسيس الحاجة إلى ثقافة علمية-تكنولوجية تخلصنا من «بربرية التكنولوجيا المتقدمة»، أي تلك البربرية الثقافية التي تقدم لنا في غلاف من وهم التقدم المادي، وتخلصنا كذلك من «بربرية التخصص» ـ كما أطلق عليها الفيلسوف الإسباني خوسيه أوتيجا جاست ـ التي جعلت من علم المتخصصين سدا منيعا يحجز عن هؤلاء «الجهلاء الجدد» كل ما دون تخصصهم من معارف وخبرات، وحتما فإن «آفة التخصص» تلك وراء عجزنا عن فهم مجتمعنا وثقافته واقتصاده.

1 : 4 الخصائص الرئيسية لعلم عصر المعلومات
يلخص (شكل 1 ) الخصائص الرئيسية التي تميز علم عصر المعلومات وهي:
شكل 1 : الخصائص الرئيسية لعلم عصر المعلومات
( أ ) التعقد والتضخم: ويشمل تعقد الظواهر والإشكاليات التي يتصدى لها العلم وتعقد وسائله لحلها، أما التضخم فيشمل تضخم المادة العلمية وتسارع معدل إنتاجها وإهلاكها بالتالي.
(ب) العلوم البينية: والتي نشأت نتيجة تداخل الفروع المعرفية المختلفة وظهور مجالات علمية «ميتامعرفية» قادرة على اختراق الحواجز الفاصلة بين أجناس المعرفة العلمية.
(ج) المؤالفة بين الأضداد: يتسم علم عصر المعلومات بقدرته على المؤالفة بين ثنائيات الأضداد التي وقفت حجر عثرة أمام علم ما قبل عصر المعلومات، من أمثلة هذه الثنائيات: ثنائية المادي واللامادي، وثنائية العضوي واللاعضوي وثنائية الميكرو والماكرو.
(د) علاقة العلم بخارجه: مع تعاظم الدور المجتمعي للعلم تنوعت وتعقدت علاقاته بخارجه على أصعدة السياسة والاقتصاد والأخلاق، ومن العلاقات العلمية الحاكمة هي علاقة العلم بالتكنولوجيا حيث تجاوزت هذه العلاقة ما ساد في الماضي تحت شعار: العلم يكتشف والتكنولوجيا تطبق، فقد أصبحت العلاقة بينهما ذات طابع تبادلي حاد، وكاد الوضع أن ينقلب لتصبح التكنولوجيا هي محرك البحث العلمي ليسود الشعار: التكنولوجيا تطلب والعلم يلبي.
ستتناول هذه الدراسة كلا من هذه الخصائص الرئيسية لعلم عصر المعلومات وانعكاساتها على منظومة الثقافة العلمية.

ثانيا : تعقد العلم وتضخمه
2 : 1 عن تعقد العلم
أوضح المتغير المعلوماتي مدى عجز عقل إنسان اليوم على التصدي للتعقد الشديد الذي أصبح السمة الغالبة لكثير من الظواهر الطبيعية والاجتماعية والنفسية، التعقد بشتى ألوانه: تعقد اللايقين واللاانتظام واللاقرار واللاصفاء واللاتوازن.
لقد تركنا القرن التاسع عشر ـ كما يقول إيليا بريجوجين ـ بعالم يزخر باليقين القاطع، يثق ثقة مطلقة في قدرة العلم على حل جميع المشكلات، في حين اتسم القرن العشرون بعالم يسوده اللايقين الذي خلص العلم من ثقته المفرطة، أما القرن الحالي فقد وصفه «ستيفن هوكنج»، عالم الفيزياء النظرية، بأنه «قرن التعقد»، التعقد الذي أغفلته واختزلته وتجنبته معرفة الماضي مما شوه رؤية الإنسان لواقعه ولذاته وللآخرين.
لقد ولى عصر البساطة إلى الأبد، ولا مناص من مواجهة التعقد وجها لوجه، ولا مكان هنا للنظريات العلمية الشاملة والصروح الفلسفية الشامخة، وعلى العلم أن يعيد بناء نفسه بصورة جذرية وبخطى حثيثة حتى يتأهل للقائه الحاسم مع التعقد، فلم تعد لدينا رفاهية الوقت لإرجاء هذا اللقاء، ولا مكان هنا لبرجماتية تقول إن مشكلة مرجأة مشكلة نصف محلولة، وأن حل مشاكل التكنولوجيا هو مزيد من التكنولوجيا وحل أزمات العلم قادم لا محالة ما إن نمهل صانعيه الوقت الكافي لحسم قضاياه المعلقة مع التعقد، فالتعقد سيظل قائما بيننا، وعلى العقل الإنساني أن يستأنس رفقته الدائمة، وأن يداوم على تجديد أدوات صناعته للمعرفة من أجل التصدي له.

2 : 2 انعكاسات التعقد على منظومة الثقافة العلمية
- صعوبة تبسيط العلوم وضرورة أن يقوم بها علماء متخصصون.
- لم يعد الكتاب هو الوسيلة المثلى لتقديم المادة العلمية بل لا بد من الاستعانة بتكنولوجيا المحاكاة والوسائط المتعددة وتكنولوجيا الواقع الخائلي Virtual Reality. لقد أصبحت المعرفة العلمية معقدة للغاية، لا يقدر على الإلمام بها إلا صفوة المتخصصين، في نفس الوقت الذي أصبحت فيه الثقافة العلمية من المطالب الأساسية للحياة في عصر المعلومات واقتصاد المعرفة. إن تكنولوجيا الواقع الخائلي يمكن أن تساهم في «دمقرطة التعقد» المعرفي بأن تجعل ظواهره في متناول العامة، وذلك من خلال أساليب المحاكاة، وإن هذه الأساليب ستمكِّن الإنسان العادي من أن ينفذ، ببصره وبصيرته، إلى ما يجري داخل نواة الذرة، ويشاهد العمليات الكيميائية التي تحدث داخل الخلايا، ويتتبع مسار الإشارات الكهربية التي تسري خلال الجهاز العصبي، وأن يرنو ببصره إلى أعلى ليراقب الأجرام في أفلاكها، ويلاحظ من حوله كيف تتغير البيئة، وتتولد الأعاصير، وتتآكل الصخور، وتنشأ الزلازل. إن تكنولوجيا الواقع الخائلي هى لغة تواصل جديدة، لغة أكثر قدرة من كل اللغات على توصيل الحقائق وزرع المفاهيم الصحيحة وإزالة المفاهيم الخاطئة، وهي وسيلتنا القادمة للتخلص من السطحية وممارسة متعة التعامل المباشر مع التعقد، الذي هو حق للجميع.
- ضرورة ترسيخ النهج المنظومي system approach لرؤية الإشكاليات والحلول بصورة شاملة تتفاعل فيها الجوانب المختلفة للإشكاليات وعناصر الحلول المقترحة لها.
- نتيجة لتعقد الإشكاليات تتعدد وجهات النظر بشأنها مما يفرض على الثقافة العلمية ضرورة تناول القضايا الخلافية، وتأكيد ضرورة قابلية العلم ـ وفقا لكارل بوير ـ للتفنيد والتكذيب.

2 : 3 تضخم المادة العلمية
انتشر العلم في أرجاء المجتمع الإنساني الحديث وتعددت ـ من ثم ـ مجالاته وتطبيقاته وهو ما أدى إلى ما يعرف بظاهرة «الانفجار المعرفي»، والتي يمكن رصدها من خلال عدة مؤشرات مثل: عدد الكتب والمجلات العلمية والبحوث المنشورة وبراءات الاختراع وما شابه، فضلا عن تعدد النظريات والمناهج وأساليب التقييم والتفنيد العلمي.
إن الإنتاج العلمي ينمو رأسيا، كذلك تتسارع عملية الإهلاك المعرفي والإحلال العلمي، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا .. هل يمكن للعقل البشري أن يحتوى ظاهرة الانفجار المعرفي، وهل أمسى ضروريا ـ كما ينادي البعض ـ تحديث أدوات هذا العقل إلى حد إمكان مؤازرته بوسائل إلكترونية تزيد من سعة ذاكرته ومن سرعة اتخاذ قراراته والوصول إلى أفضل الحلول وأصدق النتائج.

2 : 4 انعكاسات تضخم العلم على منظومة الثقافة العلمية
  • مع تضخم المادة العلمية وسرعة إهلاكها لم يعد السؤال ماذا نعرف بل كيف تعرف أيضا؟ وبالتالي ضرورة الاهتمام بنظرية المعرفة وفلسفة العلم وتاريخه.
  • ضرورة الانتقاء الدقيق لمضمون رسالة الثقافة العلمية. فقد أصبح الانتقاء، لا الاقتناء، هو العامل الحاسم لتحديد النصوص الجديرة بالقراءة، فما أكثر الغث الذي ينشر ويبث حتى بين الكتب الأكثر مبيعا، ولا يخلو من الصدق ما خلص إليه البعض من أن إتاحة المعلومات على الإنترنت مجانا بالصورة الحالية قد أضر بجودة المحتوى.
ومن نافلة القول إن سؤال ماذا نقرأ؟ لا يمكن الإجابة عنه إلا بمعرفة مجال تخصص القارئ واهتماماته وخلفيته، إلا أن التثقيف العلمي التكنولوجي بات يتطلب حدا أدنى من القراءة بحيث يغطي الموضوعات المعرفية الأساسية والتي تشمل على سبيل المثال لا الحصر:
  • البيولوجيا الجزئية والتكنولوجيا الحيوية
  • تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
  • الفيزياء الكونية وتكنولوجيا الفضاء
  • علوم البيئة
  • تكنولوجيا الطب والدواء
  • تكنولوجيا الطاقة المتجددة
  • مقومات المجتمع الإنساني الحديث
ومن حسن الحظ أنه قد برز في كل مجال من هذه المجالات عدد قليل من الكتب الرائدة التي حازت شهرة عالية في مجال الثقافة العلمية التكنولوجية، وقد ترجم معظمها إلى العربية، نذكر منها ـ على سبيل المثال ـ كتب «ستيفن هوكنج» في الفيزياء الكونية، وكتب «ريتشارد دوكنز» في علوم البيولوجيا الحديثة، «وألفين توفلر» في النقلة إلى المجتمع ما بعد الصناعي التي نجمت عن ثورة المعلوماتية.

ثالثا : العلوم البيئية
3 : 1 مسارات التداخل العلمي
لقد ترسخ التوجه التخصصي في علم ما قبل النقلة المعلوماتية مما جعل الحوار بين العلوم من الصعوبة بمكان سواء على مستوى المنهج أو المستوى الإخباري، ولا أحد يستطيع أن ينكر أهمية التخصص فلولاه ما أنجز العلم ما أنجزه، ولكن الأمر لم يعد يتحمل المضي في مسارات التخصص المتشعبة، والتي تزداد ضيقا يوما بعد يوم، دون وقفة يبحث فيها العلم عن موقف وسط يوازن بين عمق التخصص رأسيا وشمولية النظرة أفقيا، وهكذا ظهرت أهمية العلوم البيئية التي لم تعد ترفا أكاديميا بل ضرورة تفرضها طبيعة الإشكاليات التي يواجهها عالم اليوم. لقد حرمنا التخصص ـ رغم أهميته ـ من «الجشتالت» المعرفي الذي يمكن من خلاله رؤية عالمنا من زوايا مختلفة.
لا أمل في التغلب على مسلسل العجز العلمي هذا إلا من خلال اختراق حواجز التخصص والقفز فوقها، والتوحد الإبستيمولوجي على الصعيدين: الإخباري والصوري، ويلخص شكل ( 2 ) رؤية الكاتب لمسار ارتقاء التوحد العلمي ومستويات التدرج التي اتخذها العلم في سبيل تحقيق هذا من التوحد على المستوى الإخباري صوب التوحد ذي الطابع الصوري، والذي نلخصه فيما يلي:
شكل ( 2 ) مسار التداخل العلمي
( أ ) توحد علمي داخل المجال المعرفي نفسه: ومن أبرز أمثلته، على صعيد الفيزياء، التقاء الفيزياء الكهربية مع المغناطيسية، والتي حسمها ماكسويل بمعادلاته التفاضلية الشهيرة، والتقاء الفيزياء الكهربية مع الضوئية، والتي حسمها أينشتين تأسيسا على فيزياء الكوانتم، ولا شك أن ذروة هذا التوحد هي تلك التي مازال ينتظرها الجميع، ونقصد بها التوحيد بين نوعيات القوى الفيزيائية الأربع: قوى الجاذبية والقوى الكهرومغناطيسية، والقوى النووية الضعيفة والقوى النووية الشديدة، أما على صعيد البيولوجي فمثالنا هنا هو التوحيد الجاري حاليا بين الميكروبيولوجي، الذي يدرس العنصر البيولوجي في وضعه الراهن، مع علم تاريخ التطور، الذي يدرس تطور ذات العنصر على مدى العصور البيولوجية من خلال أركيولوجيا البيولوجي مدعمة بالجينوماتية المقارنة، وأخيرا، وعلـى صعيـد اللغـة يأتي التقـاء الفونولوجي (الصوتيات) والمورفولوجي (الخاص ببنية الكلمات) مثالا أدنى نسبيا للتوحد العلمي إذا ما قورن بالتفاعل بين شق النحو وشق الدلالة أو المعنى.
(ب) توحد الطبيعي مع الطبيعي: يعد التقاء الكيمياء والفيزياء مرحلة وسطا للتوحد على مستوى العلوم الطبيعية، فهو الذي مهد لتوحد أكثر حسما فيما قامت به البيولوجيا الجزئية من ربط بين الفيزياء والبيولوجي على مستوى العنصر الميكروي. إن هذا التوحد الفيزيوبيولوجي لم يقتصر فقط على الميكرو، بل تم تطبيق مفاهيمه أيضا على الماكرو في أقصى صوره على صعيد الكوزمولوجي حيث يتبنى علم الفلك الحديث نهجا بيولوجيا يسفر عنه ما ينشغل به من قضايا ذات طابع بيولوجي من قبيل: كيف تتطور المجرات؟ وكيف تتولد النجوم كالطفرات؟ وكيف تموت وتبتلعها الثقوب السوداء؟ ولكن ذروة التوحد الفيزيوبيولوجي ستحدث ـ على ما يبدو ـ على ساحة المخ البشري، وهو التوحد الذي ينتظر لقاء حاسما لعلوم الطبيعيات مع الإنسانيات والذي لا بد أن يمهد له توحد من نوع أدنى في نطاق علوم الإنسانيات قائم بذاته.
(ج) توحد الإنساني مع الإنساني: وهو ما زال يمارس إرهاصاته على مستوى الماكرو متمثلا في علوم بيئية مثل: الاقتصاد السياسي، والجغرافيا الاقتصادية، والتاريخ الاجتماعي، ويمثل التفاعل بين ثلاثية: علم اللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع مثالا أنضج إبستيمولوجيا أفرز ثلاثية العلوم البينية: علم النفس الاجتماعي وعلم اللغة النفسي وعلم اللغة الاجتماعي، ولكن سيظل هذا التفاعل الإنساني-الإنساني على مستوى الماكرو محدودا وقاصرا، ما لم ينهض به توحد بين علوم الطبيعيات وعلوم الإنسانيات.
( د ) توحد الطبيعي مع الإنساني: تشهد ساحة العلم حاليا مبادرات جسورة في هذا الاتجاه والتي تشمل ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ اللغويات العصبية والأخلاقيات البيولوجية والاقتصادي البيئي، وتجدر الإشارة هنا إلى أن التوحد الطبيعي-الإنساني يواجه صعوبة على مستوى المنهج، فهناك فجوة إبستيمولوجية بين الطبيعيات والإنسانيات.
(هـ) توحد الإخباري والصوري: هناك عدة مبادرات على هذا المستوى، من أبرز أمثلتها:
  • اللغويات الرياضية والتي أسس لها برتراند راسل بنظريته الصورية للغة formal theory of language والتي تتعامل مع الظاهرة اللغوية على المستوى الرمزي البحت، وتبحث في أنماط العلاقات بين تسلسلات الرموز اللغوية على المستويات المختلفة.
  • البيولوجيا الرياضية وهي تمثل فرعا جديدا من الرياضيات يحاول أن يضع الأساس الرياضي للظواهر البيولوجية: آلية الانتخاب الطبيعي وظهور الطفرات وتوارث السمات وتتالي الأجيال وأنماط العلاقات الوراثية التي تربط بينها.
  • الخوارزميات الوراثية والتي تعد نموذجا مثيرا لتوحد الإخباري والصوري، ففي كل من مثالي: اللغويات الرياضية والبيولوجيا الرياضية كان الصوري بمنزلة أداة للإخباري، وهو التوحد الأكثر شيوعا، على النقيض من ذلك تمثل الخوارزميات الوراثية توجها معاكسا يصبح فيه الإخباري هو أداة الصوري، حيث تتبنى الخوارزميات (الشق الصوري) مفاهيم نظرية التطور (الشق الإخباري) منطلقا لها، انظر الفقرة 1 : 3 : 2 ـ بند (ب).
( و ) توحد الصوري والصوري: يمثل هذا المستوى أكثر أنواع التوحد العلمي تجريدا حيث يتم على صعيد الصوري المحض: الرياضيات والمنطق والإحصاء ومن أمثلته الرياضيات المنطقية والمنطق الإحصائي ورياضيات الأشكال.
  • المنطق الرياضي: وهي تمثل ذروة التوحد الصوري، وذلك بفضل تعاملها مع الميكرو الرياضي: ثنائية الصفر والواحد، ذروة النظام العددي، والميكرو المنطقي: ثنائية الصواب والخطأ، ذروة النسق المنطقي.
  • المنطق غير القاطع: يجمع المنطق غير القاطع ما بين المنطق ورياضيات الفئات ونظرية الاحتمالات، وهو يرقى بالمنطق الأرسطي القاطع إلى عالم العلاقات «الغائمة» لانتماء العناصر، أو عدم انتمائها، بصورة غير قاطعة، أو بشكل جزئي، لفئة معينة أو أكثر، فكثير من معطيات المنظومات الطبيعية والنفسية والاجتماعية، وغير الطبيعية (الصناعية) أيضا، لا تأتي قاطعة، بل غالبا ما تفد إلينا غامضة وملتبسة وغير دقيقة وغير مكتملة ومغلفة بالضوضاء والتشوش، وبالرغم من كل هذا يسعى المنطق غير القاطع إلى استخلاص نتائج محددة بناء عليها.
  • رياضيات الأشكال: وهي نوع مستحدث من الهندسة ونظرية الأشكال، يسعى إلى معرفة كيف تتولد الأشكال؟ وكيف يمكن تمثيلها بصورة رياضية منضبطة؟ وللحديث بقية في الفقرة 3 : 3 : 2 .
مما سبق يمكن القول إن العلوم البينية ظلت خلال هرم ارتقائها تتسامى إبستيمولوجيا إلى أن وصل الأمر إلى ذروته، إلى «الميتامعرفية» موضوع فقرتنا القادمة.

3 : 2 العلوم الميتامعرفية
البحث عن العام الذي يجب كل ما هو خاص، والكلي الذي يجب كل ما هو فردي، ظل حلما يداعب خيال الفلاسفة والعلماء، بل الأدباء والفنانين أيضا، منذ القدم حتى يومنا هذا، من الفلسفة الطبيعية لدى الإغريق إلى المسعى الحالي للتوحيد بين نسبية أينشتين وفيزيـاء الكوانتـم لماكس بلانك، هذا على صعيد الفيزياء أما على صعيد البيولوجي فقد استولت نظرية التطور لداروين على فكر هربرت سبنسر فجعل من التطور «الخاتم السري» ـ على حد تعبير الجابري ـ الذي يفسر مختلف الظواهر الطبيعية منها والإنسانية، فهو يرى أن قانون التطور قانون عام مشترك يصدق على جميع أشكال الوجود ودرجاته، وقد اجتهد سبنسر ـ وما زال الكلام للجابري ـ في إنشاء فلسفة تركيبية تجمع مختلف علوم عصره مرتكزا على مبدأ التطور باعتباره قانونا يضم أشتات العلوم في وحدة متسقة، ولم يفرق سبنسر في هذا بين العلوم المجردة المحض (الصورية) كالرياضيات والمنطق، والعلوم المجردة المشخصة كالميكانيكا والكيمياء والفيزياء، والعلوم المشخصة كالفلك والجيولوجيا والبيولوجيا وضم إليها علم النفس وعلم الاجتماع.
ولكن كل ما سبق كان في مجمله تصورات فوقية تفرض رؤيتها على الواقع من أعلى، وهنا يكمن الفرق الجوهري بينها وبين ما نعنيه هنا بـ «الميتامعرفية» التي تسمو فوق دوجما التخصصات وتخترق الحواجز بينها، وسبيلها إلى ذلك هو النفاذ من تجليات الاختلاف الظاهري للمشكلات إلى مكنون جوهرها. إن الميتامعرفية تبحث عن أوجه التشابه بين النظم المعقدة بغض النظر عن مجالها الموضوعي، فهي ترتكز على عمومية السلوك المشترك لهذه النظم وعمومية تناول المشكلات تمثيلا وتحليلا وحلا، ولا نجد مثالا لـ «الميتامعرفية» في مقامنا الحالي خيرا من فلسفة العلم ذاتها، فقد عرفت الإبستيمولوجيا بأنها علم العلم، وقد نظرت فلسفة العلم إلى العلم بوصفه ظاهرة معقدة، ويبحث علم مناهج البحث، صلب فلسفة العلم، عما وراء اختلافات المناهج المتخصصة وصولا إلى الباراديمات الأكثر تجريدا والمستخلصة من المواقف العلمية في مجالات التخصص المختلفة لتصبح ـ وفقا ليمنى الخولي ـ أسسا عامة يمكن تطبيقها على كل بحث علمي من حيث هو علمي، وكلما ارتقي الباراديم زادت قدرته على استقطاب عدد أكبر من الفروع العلمية المتخصصة.
لكن لا سبيل للعلم أن يجتاز عتبة التعقد إلا بأن نرقى بمعرفتنا الحالية من مستوى العلوم البينية إلى ما هو فوقها، إلى العلوم الميتامعرفية، التي تطفو فوق أجناس المعرفة وفروعها المتخصصة مخترقة الحواجز بينها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
  • علم (الطفور) Emergence والانتظام الذاتي Self organization
  • علم التفاعلينات Synergetics
  • نظرية الشواش (الفوضى) Chaos theory
  • النظرية الموحدة للنظم Unified theory of systems
  • نظرية المعلومات Information theory
  • نظرية الأشكال Theory of graphs
ولا يتسع الحديث هنا لتناول كل من هذه العلوم الميتامعرفية، وسنكتفي هنا بالإشارة إلى علم الانبثاق، أو الطفور Emergence، وقدرتــه على اختراق حواجـز التخصص وعلى تناول نطاق هائل من المجالات المعرفية، من ممالك النمل ولغته إلى بنية المخ وكيفية عمله، ومن تخطيط المدن ونمط تطورها إلى تصميم ألعاب الفيديو وزيادة تفاعلها، ومن نظرية التطور إلى نظرية التعقد، ومن سلوك الحيوانات والجينات إلى تطور البرمجيات والإنترنت، ومن علم النص إلى نظرية النقد، ومن الإعلام إلى الإعلان، هذا ما خلص إليه ستيفن جونسون في كتابه المثير عن علم الطفور Emergence، بوصفه نموذجا للعلم الميتامعرفي.
وأخيرا وليس آخرا، لئن كانت ظاهراتية هسرل قد سعت لتجعل من الفلسفة علما دقيقا فأوصت بأن ننطلق من الظواهر ذاتها، ننظر إليها برؤية طازجة، كما هي معطاة للوعي، متحررة من كل رؤية فوقية، فربما تسهم الميتامعرفية في شحذ الظاهراتية علما دقيقا، يرى الظواهر وهي تنبثق وتتشكل وتتطور من أسفل بصورة طبيعية دونما عون من استنباط هابط أو استقراء صاعد.
3 : 3 انعكاسات العلوم البينية على منظومة الثقافة العلمية
  • تلعب العلوم البينية دورا متعاظما فيما يخص تثقيف المتعلمين
  • الاهتمام بالمفاهيم المحورية لكل فرع علمي حيث عادة ما يتم التداخل العلمي على مستوى هذه المفاهيم.
  • إكساب الفرد مهارات القراءة خارج نطاق تخصصه، وهي قراءة تختلف عن قراءة التخصص اختلافا كبيرا حيث تركز على الأفكار الجوهرية دون حشو التفاصيل.
  • تعد كتابة الثقافة العلمية الرامية إلى تقديم العلوم البينية من أصعب المهام ولا يستطيع القيام بها إلا شخص متمكن من مجال تخصصه وعلاقاته بالمجالات المعرفية الأخرى، علاوة على ضرورة توفر مهارة الكتابة القادرة على إبراز المفاهيم والأفكار المحورية، وإرضاء توقعات نوعيات القراء المختلفة التخصص دون الوقوع في فخ الضحالة.
  • تحتاج العلوم الميتامعرفية إلى إعطاء خلفية عن العلوم الصورية القائمة عليها ومن أهمها: الإحصاء والمنطق الجديد ونظرية النظم systems theory ونظرية الأشكال graphs theory.
  • من جانب آخر، وكما يرى محمد عمارة، في رؤيته الإسلامية لإنتاج المعرفة، ضرورة الفصل ما بين فلسفة العلوم الطبيعية وفلسفة العلوم الإنسانية، بمعنى أن يقتصر جهد أسلمة العلوم على شق الإنسانيات: اجتماعية وسياسية واقتصادية وتربوية ويتساءل الكاتب هنا: هل يمكن أن يصمد هذا التوجه أمام التداخل الشديد في خريطة المعرفة الإنسانية، ويشهد تاريخ الفكر الفلسفي والاجتماعي بتأثره دوما بما يحدث على جبهة العلوم الطبيعية، وتؤكد دلائل عديدة على أن علاقة التأثير والتأثر بين الطبيعيات والإنسانيات ستزداد وثوقا في عصر المعلومات.
رابعا : المؤالفة بين المتضادات
4 : 1 قائمة ثنائيات التضاد
بصورة عامة، يمكن القول إن توجهات علم عصر المعلومات على المستوى الإخباري (الموضوعي) تتمحور حول مبدأ رئيسي، هو ما يمكن أن نطلق عليه مبدأ «المؤالفة بين المتضادات»، فقد أظهرت تكنولوجيا المعلومات قدرة فائقة على لم الشمل المعرفي من خلال كسرها لكثير من الثنائيات التي يرجع كثير منها إلى الإرث الديكارتي القديم وهي:
  • المؤالفة بين المادي واللامادي.
  • المؤالفة بين الحيوي والفيزيائي.
  • المؤالفة بين الإنساني والآلي.
  • المؤالفة بين الواقعي والخائلي.
  • المؤالفة بين الفردي والجمعي.
  • المؤالفة بين المحلي والعولمي.
  • المؤالفة بين الحالي والتاريخي.
  • المؤالفة بين الميكرو والماكرو.
  • المؤالفة بين خصوصية وعي الإنسان وعمومية مادة بنائه.
لقد انحاز علم ما قبل عصر المعلومات في مجمله إلى طرف واحد من هذه الثنائيات متجاهلا الآخر، إما عجزا عن المؤالفة وإما إسرافا في أحادية التوجه، ويمكن النظر إلى مسار تحور العلم ـ في كثير من جوانبه ـ كمتغير تابع لتأرجحه ما بين الطرفين المتضادين لهذه الثنائيات.
تعزى قدرة تكنولوجيا المعلومات على هذه المؤالفة إلى ثنائية «الصفر والواحد»، تلك الثنائية الكامنة في كل ما هو ميكروي، سواء في الميكرو الفيزيائي متمثلة في ثنائية الفعل ورد الفعل، وثنائية الشحنة السالبة والشحنة الموجبة، وثنائية المادة والمادة المضادة، أو في الميكرو البيولوجي متمثلة في أبجدية الكود الوراثي الرباعية والتي هي ـ في أساسها ـ زوج من ثنائيات الحروف البيولوجية، وكما تكمن ثنائية الصفر والواحد في ميكرو العناصر المادية تكمن كذلك في ميكرو العناصر اللامادية المجردة، في ميكرو الرياضيات متمثلة في ثنائية القيم السالبة والموجبة، وثنائية طرفي المعادلات والمتكافئات، وكذلك في ميكرو المنطق متمثلة في ثنائية المقدمات والنتائج، وثنائية الصواب والخطأ أساس الحكم في المنطق الأرسطي، يقول آخر إن ثنائية الصفر والواحد هي « أبجدية الأبجديات» أو «أبجدية الأساس» التي يصاغ منها كل ما نعرفه من كائنات: محسوسة كانت أو مجردة.

4 : 2 المؤالفة بين المادي واللامادي
ما نقصده بالمادي هنا هو كل ما هو محسوس، سواء كان عضويا أم غير عضوي، أما اللامادي فيشمل كل ما هو مجرد غير محسوس من أفكار ومفاهيم ونظريات وعلاقات، وهلم جرا. من هذا المنظور، تمثل آلة الكمبيوتر نقلة نوعية مثيرة وحاسمة في مجال الابتكار التكنولوجي، يمكن لنا إدراكها من خلال تعريفنا لمفهوم «الآلة» والتي هي ـ ببساطة ـ وسيلة مادية لتجسيد فكرة معينة من أجل تنفيذ وظيفة معينة. ومن خلال التصميم، يتم تحويل هذه الفكرة إلى آليات من التروس والروافع والدوافع والدوائر الكهربية والإلكترونية وما شابه. وهكذا، تتجسد الفكرة بصورة نهائية لا تقبل التغيير، ولا تنفصم عن الشق المادي المنفذ لها، ولا سبيل أمام مستخدم الآلة، الموسومة بفكر مصممها، إلا أن يلتزم بما قرره هذا المصمم بشأن أطوار أدائها وأسلوب استخدامها.
ويأتي الكمبيوتر ـ ولأول مرة ـ ليعلن «فك الاشتباك» بين فكرة تصميم الآلة وبين العناصر المادية التي تجسد هذه الفكرة، وذلك من خلال ثنائية الشق المادي المتمثل في العتاد، والشق اللامادي المتمثل في البرمجيات؛ أي الفكر الذي يهب الحياة لهذه الآلة الصماء. وعليه، فالكمبيوتر هو «آلة إنجاز خام» يتم توجيهها من خلال البرامج لتنفيذ وظائف محددة.
وإن كان الكمبيوتر قد فصل ـ كما أوضحنا ـ بين العتاد والبرمجيات، إلا أنه ـ في الوقت ذاته ـ قد استحدث وسائل عملية للتحويل بين المادي واللامادي والدمج بينهما، حيث تقوم البرمجيات حاليا بكثير من الوظائف التي كانت تنفذ فيما مضى من خلال عناصر مادية من تروس وروافع ودوافع ومقاومات وملفات ومكثفات وخلافه. على الجانب الآخر، يمكن تحويل البرمجيات نفسها إلى مقابل مادي، وذلك من خلال ما يعرف بأسلوب «معدنة البرمجيات -metalization» حيث يتم صهر البرامج ـ أو حرقها وفقا للمصطلح الفني ـ في صلب بلورات شرائح السيلكون الإلكترونية لتتحول بذلك تعليمات البرمجة، ذات الطابع الرمزي، إلى مقابل مادي من الدوائر الإلكترونية الدقيقة.
كان لتحطيم ثنائية المادي واللامادي صداه في العديد من المجالات نذكر منه على سبيل المثال:
- المجال السياسي: الجمع بين القوى الصلدة المتمثلة في القوى العسكرية، والقوى اللينة المتمثلة في مؤسسات الإعلام وأجهزة الاستخبارات وتشريعات وقرارات المنظمات الدولية.
- المجال الاقتصادي: الجمع بين رأس المال المادي ورأس المال الذهني، والجمع بين ثنائية القيم المادية (قيمة التبادل وقيمة المنفعة) والقيم اللامادية (قيمة المعلومات والقيمة الرمزية).
- المجال الهندسي: الجمع بين الهندسة الصلدة (كهندسة الميكانيكا وهندسة الإنشاءات وهندسة التعدين) والهندسة اللينة (كهندسة المعرفة والهندسة الاجتماعية وهندسة الخيال)
ولا شك أن هذه مجرد بدايات متواضعة للجمع بين المادي واللامادي تنتظر التأصيل العلمي، وسيكون للبيولوجيا دورها الحاسم في هذا الصدد، وذلك بصفتها همزة الوصل ـ من خلال لغة الجينات ـ بين اللامادي الرمزي وبين المادي العضوي (الحيوي)، وهو الوصل الذي يمتد ليشمل المادي غير العضوي (الفيزيائي) من خلال العلاقة الفيزيوكيميائية التي تربط بين الحيوي والفيزيائي.

4 : 3 المؤالفة بين الحيوي والفيزيائي
يقصد بالحيوي هنا العضوي ذو القدرة على الحركة الذاتية أو التغير الذاتي، الذي يشمل كل الكائنات الحية، وكل مكوناتها من أعضاء وخلايا ونظم فسيولوجية، أما الفيزيائي، أو غير العضوي، فيشمل كل الموجودات المادية غير الحية، التي لا تقدر على الحركة أو التغير إلا بفعل مؤثر يأتيها من خارجها.
وقد شرعت تكنولوجيا المعلومات في المؤالفة بين الحيوي والفيزيائي في نطاقها أولا، وذلك بدمجها بين العناصر الحيوية والفيزيائية في تكنولوجيا «البيوسيلكون» (انظر الفقرة 1 : 3 : 3 )، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تكنولوجيا المعلومات في طريقها - من خلال المعلوماتية الجزيئية molecular informatics وليدة النانوتكنولوجي - إلى تحقيق مستويات من التصغير المتناهي تفوق الخيال، وهو ما سيمكن من صنع كائنات اصطناعية بالغة الصغر ذات قدرة هائلة على حفظ المعلومات ومعالجتها بما يمكن أن نطلق عليه «النانو ـ روبوت» أو «الفيروس الاصطناعي الحميد» الذي يمكن أن نبعث به داخل الجسد ليحط على خلايا بعينها يحاورها بلغة الجينات، اللغة المشتركة التي تتحدث بها خلايا جميع الكائنات الحية.
إن تحطيم ثنائية الحيوي والفيزيائي تتجلى في أقصى صورها في المواجهة الحاسمة بين الإنساني والآلي.

4 : 4 المؤالفة بين الإنساني والآلي
على العكس مما ينذر به البعض من أن يؤدي التطور في تكنولوجيا المعلومات إلى نشوب صراع بين الإنسان وآلته التي هي من صنع يده، يرى آخرون أنها ستؤدي إلى التكامل بين الإنساني والآلي، وذلك لسبب بسيط مؤداه أن ما يقدر عليه الإنسان عادة ما تعجز عنه الآلة والعكس صحيح أيضا، فعلى سبيل المثال وبينما يتسم مخ الإنسان ـ الجشتالتية الطبيعية ـ بقدرة فائقة على الإلمام بالصورة الشاملة وتمييز الأنماط من أجسام وأشكال وأصوات وهي القدرة التي لا يمكن للآلة أن تدانيها، تتسم الآلة ـ في المقابل ـ بقدرة هائلة على القيام بالعمليات الحسابية وتخزين المعلومات واسترجاعها، والمؤالفة بين الإنساني والآلي ستتدرج من أدنى مستوياتها في توفير سبل الحوار بين الإنسان والآلة، تبدو فيه الآلة أقرب ما تكون إلى النديم البشري، إلى مستوى حد الاندماج المادي عندما يصبح في الإمكان تعزيز الإنسان بعناصر إلكترونية، وسينشغل العلم حتما بدراسة الأبعاد النفسية والاجتماعية والاقتصادية لهذا المزيج الإنساني-الآلي، أو «الإنسالي» إن جاز لنا سك المصطلح.

4 : 5 المؤالفة بين الواقعي والخائلي
يمثل الواقع الخائلي ذروة ما وصلت إليه تكنولوجيا المحاكاة الرقمية digital simulation، والتفاعل بين الإنسان والآلة، إنه ـ أي الواقع الخائلي ـ ثمرة ما يمكن أن نطلق عليه «هندسة الخيال imagineering» التي تجمع في كل واحد متسق بين العلم والفن والتكنولوجيا، من أجل إقامة عوالم وهمية من صنع الرموز. لتوضيح مدى انتشار مفهوم الخائلية virtually نورد أدناه عينة من قائمة الكائنات الخائلية التي يضاف إليها كل يوم كائن خائلي جديد:
- جماعات خائلية
- مدن خائلية
- معامل خائلية

- مكتبة خائلية


- جراحة خائلية
- فصول خائلية
- سياحة خائلية
.............
إن سقوط الحاجز بين الواقعي والخيالي سيؤدي إلى إعادة النظر في ثنائيات عاشت آمادا طويلة من قبيل: ثنائية الحرفي والمجازي، والوعي واللاوعي (الحرفي والوعي يناظران الواقعي في حين يمثل المجاز واللاوعي الشق الخيالي)، ولن يتوقف الأمر عند هذه الثنائيات «المستأنسة» بل سيتوسع ليشمل الثنائيات المارقة من قبيل: العقلاني واللاعقلاني، والفكر واللافكر، والمعنى واللامعنى والمصرح به والمسكوت عنه، بكل ما ينطوي عليه ذلك من انعكاسات في جميع أرجاء منظومة المعرفة الإنسانية.

4 : 6 المؤالفة بين الفردي والجمعي
يقصد بالجمعي هنا كل ما هو مجتمعي وجماهيري وجملي (كما في إنتاج الجملة) وكل ما يتعامل مع كتل من العناصر المتعددة، أما الفردي فهو الشخصي الذاتي وكل ما يتعامل مع العناصر المنفردة.
لقد تعامل علم الماضي مع الفردي والجماعي كل على حدة، وحقق على المستوى الفردي نجاحا يفوق ما حققه على المستوى الجمعي، ومن المتوقع لعلم عصر المعلومات بما توفر له المعلوماتية من وسائل أن يؤالف بين الفردي والجمعي ونكتفي هنا بقائمة موجزه في عدة مجالات معرفية:
علم النفس: المؤالفة بين الذكاء الفردي والذكاء الجمعي
التربية: المؤالفة بين التعليم الجمعي، تعليم إنتاج الجملة، والتعلم الذاتي ذي الطابع الفردي
الإعلام: الجمع بين الإعلام الجمعي (الجماهيري)، والإعلام الفردي، وتمثل الإنترنت نموذجا لهذا النوع من الإعلام المزدوج حيث يمكن أن تبث الرسالة المعلوماتية على اتساع شبكة الإنترنت بأكملها، أو يتم تصويبها لفرد معين أو جماعة صغيرة بعينها.

4 : 7 المؤالفة بين المحلي والعولمي
تبرز أهمية المؤالفة بين المحلي والعولمي في ميادين عديدة: سياسية واقتصادية وثقافية وأخيرا معلوماتية، فقد عانى العالم أجمع انفراد العولمة بالساحة الكونية: سياسة عولمية تضغط بثقلها على الجميع واقتصاد عولمي يعمل لمصلحة الكبار ويغري الصغار بوهم اللحاق، وعولمة ثقافية تكاد تقضي على التنوع الثقافي، وأخيرا وليس آخرا، عولمة معلوماتية وإعلامية تزيد الفجوة الرقمية اتساعا يوما بعد يوم.
ولا سبيل إلى تقليم أظفار العولمة إلا من خلال تضامن المحلي، وإن كان الشعار الذي شاع في الماضي هو: فكر عولميا وافعل محليا، فإن المطلوب بالفعل أن نفكر ونفعل عولميا ومحليا أو «عولمحليا glocally»، ولا بد لعلم عصر المعلومات أن يعين الفكر الإنساني في كيفية المؤالفة بين العولمي والمحلي، وما حدود المواجهة بينهما، وكيف يتقاسمان العمل، ويتحملان المسئولية في تسيير أمور كوكبنا، إننا بلا شك في حاجة إلى نظريات جديدة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام والتربية والثقافة، مما يؤكد الأهمية الكبرى لعلوم الإنسانيات بفعل النقلة المعلوماتية.

4 : 8 المؤالفة بين الحالي والتاريخي
لن نبالغ بقولنا إن علم ما قبل النقلة المعلوماتية قد أهمل التاريخ أو تجنبه، ففصل بين الحالي والتاريخي، فانفصل التاريخ عن الجغرافيا، والتي انفصلت بدورها عن الجيولوجيا، وفصلت البيولوجيا الحديثة بين الميكروبيولوجي المنشغل بالراهن كما أسس له واطسون وكريك والتطور البيولوجي ذي الطابع التاريخي كما أسس له داروين ومندل ( 3 : 712)، وفصل علم اللغة، على يد مؤسسه دي-سوسير، بين التزامني، أو السينكرونيك synchronic الذي يدرس واقع اللغة الراهن، وبين اللاتزامني أو الدياكروتيك diachronic الذي يدرس تطورها، أما الفلسفة لدى ميشيل فوكو فهي نشاط تشخيص الحاضر، والحاضر هو الجدير بالاهتمام الفلسفي، بل سار على ذات المنوال علم العلم أيضا حيثما فصل بين فلسفة العلم وتاريخه، وعسى التآلف الذي تم بينهما في العقود الماضية أن يكون فاتحة خير لنمو النزعة التاريخية في فروع العلم المختلفة بعد أن كادت تضمر تماما، ولم يعد العالم يفتقد الأداة العملية لتحقيق ذلك بعد أن وفرت تكنولوجيا المعلومات وسائل عديدة للأرشفة الإلكترونية وإعادة بناء التاريخ خائليا. إن المؤالفة بين الحالي والتاريخي بإضافتها لعنصر الزمن ستجعل العلم أكثر دينامية وحيوية، وأكثر قدرة على التنقيب في إرث ماضيه بحثا عن مناهل جديدة يواجه بها مشكلات حاضره وتحديات مستقبله، وما أكثرها.

4 : 9 المؤالفة بين الميكرو والماكرو
لقد حار العقل الإنساني منذ القدم بين انشغاله بالأسئلة الكبرى ووقوعه في فخ تفاصيل الميكرو المثيرة، وكان التركيز في القرن العشرين على تفتيت النظم إلى المكونات وبعدها محاولة تحليل هذه المكونات بأكبر قدر من التفصيل، فانشغل علم الفيزياء بالذرة، والبيولوجي بجزيء الدنا، وعلم اللغة بعناصرها الأولية من قبيل: الفونيم والمورفيم والسينتيم، وحتى على المستوى الثقافي كان حديث الميكرومثقف الذي عليه أن يطرح القضايا الكبرى ليركز على الميكروسياسي والميكرواجتماعي.
ولا أحد ينكر فضل هذا التوجه الميكروي على تقدم العلم، إلا إننا لا يمكن أن نغفل كيف تاهت الصورة الكبرى ليظل السؤال معلقا: كيف يتم التآلف بين الميكرو والماكرو؟ كيف يقوم العضو الحيوي بوظائفه باحتشاد خلاياه؟ وكيف تبني الحشرات الاجتماعية ممالكها من تضامن قوافلها؟ وكيف يبني النص روايته الكبرى من تضافر ألفاظه؟وكيف يمكن للعنصر الذري أن يؤثـر فـي سلوك الكلـي؟ بعـد أن ثبـت ـ بالفعل ـ أن فيزياء الذرة يمكن أن تسهم في توليد الأعاصير.
وربما يبرر ذلك؛ الأهمية الإبستيمولوجية لمسعى ستيفن هوكنج للتوحيد بين الماكرو الفيزيائي المتمثل في الفضاء الزمكاني الشاسع والذي تكفلت به نسبية أينشتين، والميكرو الفيزيائي الذي تكفلت به فيزياء الكوانتم، فما أعظم شأن مسعاه، فلو كلل بالنجاح لسقطت واحدة من أخطر الثنائيات التي حيرت العقل الإنساني على مدى الدهر: ثنائية الماكرو والميكرو، وبسقوطها ينفتح الطريق لحل كثير من المعضلات التي ورثها علم عصر المعلومات، ودعنا نستمع هنا إلى ما قاله نيلز بوهر، العالم الدنماركي الفذ مؤسس نظرية بناء الذرة: «إن الأرصاد الفلكية والنظريات الكونية لها أهميتها، إلا أن الفهم الحقيقي لأصل الكون وبنيته يكون مستحيلا إن لم نفهم أولا كيف تعمل قوانين ميكانيكا الكم مفعولها في الجسيمات الأساسية، ولا أمل لتقدم حقيقي في علم الكون إلا بعد أن نتمكن من أن نضم معا علم الكون وفيزياء الجسيمات في ذات السياق» (21 : 59)، وهل لنا بعد ذلك أن نضيف أن المسافة الفاصلة بين التلسكوب والميكروسكوب آخذة في الانكماش، فعندما نعجز عن رؤية الصغير نلوذ بالكبير، وعندما يستعصي علينا فهم الكبير نلوذ بالصغير.
لقد كان التنقل بين الصورة الكبرى والصورة الصغرى وراء كثير من الإنجازات التي حققها العلم أخيرا بعد أن أيقن أن الميكرو ليس خاضعا يعمل تحت إمرة الماكرو، وليس سلوك الماكرو ناتجا ميكانيكيا لحاصل الجمع الميكروي، وهكذا فإن أحد تحديات علم عصر المعلومات هو في محاولة الإجابة عن السؤال الذي رددناه كثيرا دون إجابة مقنعة وهو: كيف يكون الكل أكبر من مجموع عناصره؟ فلم يعد كافيا هذا الحصاد الضئيل الذي خلفه لنا علم النفس الجشتالتي.
4 : 10 المؤالفة بين خصوصية وعي الإنسان وعمومية مادة بنائه ينكر فلاسفة العقل الطبيعيون أو الاختزاليون، كما يطلق عليهم أحيانا، أن يكون الإنسان كائنا مميزا، في الوقت نفسه يعيب البعض على علم النفس إغفاله لموضوعه الرئيسي ألا وهو الوعي، ويرون أنه لا سبيل لفهم عمل المخ البشري معزولا عن وعي صاحبه (مرجع).
وكما أوضحنا في الفقرة (1 : 3 : 3) تعمل تكنولوجيا المعلومات كهمزة وصل بين العصبي والمعرفي، وذلك بفضل قدرتها على الفصل والدمج بين المادي واللامادي، لذا فمن المتوقع أن يقيم علم عصر المعلومات مؤالفة بين خصوصية وعي الإنسان وعمومية مادة بنائه البيولوجية، مؤالفة تطهر الفكر من رواسب غائرة ومترسخة من نزعة خلفها التمركز الإنساني anthrocenterism، في ذات الوقت الذي تتناول فيه إشكالية الوعي بصورة أكثر جدية، وستتحقق هذه المؤالفة عبر عدة سبل من أهمها:
  • كسر تكنولوجيا المعلومات احتكار الإنسان لخاصية الذكاء حيث باتت ـ كما تكرر ذكره فيما مضى من حديث ـ تشاركه فيه الآلات والروبوتات والنظم. وذكاء هذه الكائنات غير البشرية ليس صورة مصغرة، أو ممسوخة، من ذكاء الإنسان حيث لها طرقها في التعلم ذاتيا مباشرة من خلال البيئة واستخلاص المعرفة من مصادر البيانات الخام، وكذلك من خلال تفاعلها مع الكائنات الذكية الأخرى بما فيها الإنسان.
  • ستوفر تكنولوجيا المعلومات الوسائل العملية لإجراء الدراسات المقارنة لجينومات الكائنات الحية، ليثبت للإنسان أن الجينوم البشري ما هو إلا حالة واحدة في طيف الجينومات، وأن هناك وحدة مادية تربط بينه وبين سلسلة الكائنات الحية وأن عدد جينات حبة الأرز أكبر من عدد جيناته وأنه يرتبط من خلالها ـ كما قيل ـ بصلات قرابة بعيدة مع أشجار الزيتون وفصائل الأميبا.
  • لا يمكن الحديث عن الوعي إلا إذا استطعنا تفسير لماذا يختلف كل فرد اختلافا بالغا عن الآخر؟ (مرجع)، وذلك من خلال رد الاعتبار لمفهوم الذاتية، والذي كاد أن يصبح نوعا من المحظورات السيكولوجية. وفي هذا الصدد ستوفر تكنولوجيا المعلومات الأساس العلمي لتناول ظاهرة الوعي، من خلال قدرتها على التعامل على مستوى وحدة الفرد، وجدير بالذكر هنا أن كثيرا من أمور عصر المعلومات باتت تتمحور حول الفرد، فالتعليم يتمحور حول المتعلم، والإعلام حول المتلقي وفهم النصوص حول القارئ.
4 : 11 انعكاسات المؤالفة بين الأضداد على الثقافة العلمية
  • التخلص من الثنائيات المترسخة وتوضيح آثارها السلبية على صعيد تطور العلم، ومن ثم المشاكل التي نجمت عنها معرفيا ومجتمعيا، ومن أبرز هذه المشاكل قائمة الحتميات التي كادت تودي بالبشرية إلى مدارك الهلاك، من قبيل: الحتمية الفيزيائية، الحتمية البيولوجية، الحتمية التاريخية، وأخيرا الحتمية الاقتصادية وليدة العولمة.
  • إبراز فرص الإبداع العلمي العديدة التي تتيحها نزعة المؤالفة بين الأضداد، فهي تعطي منطلقات جديدة لتناول الإشكاليات واستحداث الحلول وإبداع الفنون.
  • إعطاء أمثلة واقعية للمؤالفة العلمية، ومن أمثلتها:
ـ المادي واللامادي: علاقة عتاد الكمبيوتر ببرمجياته ـ العضوي واللاعضوي: التكنولوجيا الحيوية.
ـ الواقعي والخائلي: تنظيمات الأعمال على الإنترنت.
ـ الإنساني والآلي: نظم الحوار مع الكمبيوتر باستخدام اللغات الإنسانية
ـ العولمي والمحلي: التنوع الثقافي في إطار العولمة

خامسا : علاقة العلم بخارجه
5 : 1 طبيعة العلاقة
كما ستعيد تكنولوجيا المعلومات الوئام بين العلم والفلسفة ستعمل كذلك على إقامة الوصال بين العلم وما هو خارجه، خاصة على صعيد الأخلاق التي كادت أن تصبح تابعة للعلم وناتجا فرعيا للتكنولوجيا، تؤكد ذلك سلسلة صيغ «المضاف والمضاف إليه» التالية والتي ترد فيها «الأخلاقيات» في موضع المضاف، أي التابع: أخلاقيات المعلومات وأخلاقيات التكنولوجيا وأخلاقيات الميديا، وأخلاقيات البيئة، وأخلاقيات الهندسة الوراثية، وما شابه، فأوشكت بذلك فلسفة الأخلاق أن تتحول إلى شكل من أشكال تقاليد المهنة. في حين أن حل أزمة القيم الحالية لن يتأتى إلا بالتخلص من هذه التبعية، ورد الأمر إلى نصابه بأن تصبح التكنولوجيا ذاتها فرعا من فلسفة الأخلاق، فدون ذلك لا يمكن المواءمة بين القيم المادية والروحية، وبين الإلزام والالتزام، وبين مصالح الفرد ومصالح الجماعة، ولا أمل في تحقيق ذلك إلا بأن نجعل التكنولوجيا مرة أخرى تابعة للعلم لا العكس كما هو حادث الآن، وتبعية التكنولوجيا للعلم تعني تحرره من قبضتها ليسترد حقه الطبيعي في أن يكون حرا طليقا في اختيار موضوعاته ومناهجه وإشكالياته كما كان عليه الحال في الماضي، وكل معرفة علمية جديدة يمكن أن تقوم عليها تطبيقات تكنولوجية عديدة يتم اختيار أنسبها وتحديد أولوياتها على أسس أخلاقية بما فيه مصلحة جميع الفئات والجماعات والأجيال. لقد دفع العالم ضريبة باهظة بسبب النمط الذي سار عليه استخدام التكنولوجيا للعلم: من التطبيقات العسكرية فالتجارية لتأتي التطبيقات الاجتماعية والثقافية في المؤخرة.
في ظل اقتصاد المعرفة أصبح للعلم شأن كبير في مجال الاقتصاد وخير دليل على ذلك ما تحظى به أمور الملكية الفكرية ورأس المال الذهني من أهمية في الخطاب الاقتصادي الجديد، من جانب آخر فإن الفجوة العلمية بين العالم المتقدم والعالم النامي تزداد اتساعا يوما بعد يوم مما ترتب عليه زيادة الفجوة الاقتصادية بينهما.

5 : 2 انعكاسات علاقة العلم بخارجه على منظومة الثقافة العلمية.
- عدم الفصل بين الثقافة العلمية والثقافة التكنولوجية
- إبراز الآثار السلبية لتطبيق التكنولوجيا بمعزل عن مطالب التنمية المستدامة.
- إبراز الآثار المجتمعية للسياسات العلمية والتكنولوجية عالميا وإقليميا وقطريا.
- إبراز الصلة الوثيقة بين أخلاقيات العلم والشرائع الدينية.
- ضرورة مشاركة العلماء في الإشكاليات الواقعية التي تواجهها مجتمعاتهم
- إعادة النظر في الإعلام العلمي من منظور المتغير المعلوماتي وأثره في التطور العلمي - التكنولوجي.
- أهمية الثقافة العلمية في تكوين العقل الجمعي، ودور تكنولوجيا المعلومات عموما، والإنترنت بصفة خاصة، في تنمية الذكاء الجمعي والحفاظ على الذاكرة الجمعية.
  • عالم الديناميكا الحرارية الحائز على جائزة نوبل.
  • تعدد المقابل العربي لمصطلح fuzzy logic بين الغائم والضبابي والرمادي والمرن والمتميع وجميعها في رأي الكاتب لا تنقل المفهوم.
نبيل علي

كتاب العربي
جميع حقوق النشر والاقتباس محفوظة "لمجلة العربي" وزارة الإعلام - دولة الكويت