الثلاثاء، 15 سبتمبر 2015

العسل، ونبوءة آينشتاين



العسل، ونبوءة آينشتاين
حبيب سروري –العربي الجديد

في 13 مايو/ أيار الماضي، كشفت جامعة ماريلاند الأميركية، في تقرير سنوي، أرقاماً مخيفة عن مصيبةٍ كبرى: انقراض 42% من مستعمرات النحل في أميركا، خلال العام الماضي، فأعلن أوباما بعد ستة أيام خطّةً وطنيّة لتلافي ذلك، ولحقتهُ فرنسا بإجراءت شبيهة.
احتمال انقراض النحل من المعمورة خبرٌ جدّ مريع، أشبه بِـ"علامات الساعة"، إذ يعيد إلى الذهن نبوءةَ آينشتاين الشهيرة: "إذا اختفى النحل من سطح الأرض، فلن تعيش الإنسانية أكثر من 4 سنوات بعد ذلك: لا نحل، لا تلقيح، لا نبات، لا حيوانات، لا إنسان".
خلية نحل - وادي حضرموت
الخبر مريعٌ خصوصًا لمن دخل مع النحل بعلاقةٍ صوفيّة، متعدِّدة الأبعاد والجوانب، منها؛ متابعة النشاطات العلمية في مجالات "الذكاء الجمعي"، في أبحاث علوم الكمبيوتر، التي تحاول محاكاة النحل في تكوين شبكات من كينونات برمجيّة (Agent)، كلّ فردٍ منها بدون ذكاءٍ يستحقّ الذكر، لكنها معاً تشكِّلُ منظومات معقّدة، شديدة الذكاء، جبّارة القدرات.
إذ للنحلة دماغٌ حجمه مليمتر مكعب، لا يمتلك أكثر من مليون عصبون. لكن مجموع النحل في الخلية (50000) تشتغل بدماغٍ ألمَعِيّ، كل نحلةٍ عصبونٌ من شبكة عصبوناته. يُمَكِّن العملُ والتفاعلُ المشترك ذلك الدماغَ الجمعي من امتلاك مقدّرات فريدة: تآزر، تكيّف، اتصال، تعلّم، استيعاب للبيئة المحيطة، مقدّرات يصعب سبرها في مقال.
فقد برهن عالِم الرياضيات كوينج، مثلاً، في ورقة علميّة سمحت له بدخول الأكاديمية الفرنسية في عام 1740، أن مورفولوجيا طبقات الشمع الذي يشيّده النحل، والأشكال السداسية لتجويفات خلاياها، تسمح بإيجاد الحل الرياضي الأمثل لهذه الإشكالية: كيف يمكن استخدام أقل كميّةٍ محدّدة من الشمع لبناء أكبر عدد من الخلايا المتشابهة والمتماثلة، في أصغر مساحة داخل الخليّة؟ وقد شرح داروين في كتابه الشهير"في أصل الأنواع"، كيف أثّر مبدأ "الانتقاء الطبيعي" في الوصول إلى كلّ ذلك الإبداع العبقري.

اقرأ أيضاً: كيف تُشيّدُ المعاجم التاريخية الحديثة؟

عسل يمني - وادي حضرموت
مريعٌ انقراض النحل لمَن يدهشه الشكل الجديد لاقتصاد اليوم المستلهمِ من حياة النحل: "الاقتصاد التلقيحي"، وتداعياته على الحضارة الإنسانية. فهذا النموذج الجديد الذي بدأ يكتسح الاقتصاد المعاصر، مبنيٌّ على كون أهمية النحل تكمن في التلقيح الذي يفوق مردودُه (يعادل 15 مليار دولار سنويّاً في أميركا) بكثير مردودَ إنتاج العسلِ (أقلّ من مليار دولار). ويكفي رؤية نموذج اقتصاد غوغل على الإنترنت: بمجرد نقر المستخدم للمتصفح، يمتصُّ كالنحلة الرحيقَ المعلوماتي من المتصفح، يستفيدُ منه، ويلقِّحه بمعلوماتٍ مرتبطةٍ بحاجاته، واهتماماته وطبيعة شخصيّته.
هكذا، فالتلقيح استعارةُ النموذج الاقتصادي الجديد، فيما إنتاج العسل استعارةُ النموذج القديم. نحن هنا أمام نمطٍ جديدٍ من اقتصادٍ تعاضدي، معرفي، يتكئ على مفهومَي: شبكة الشبكات الاجتماعية، والتلقيح الإنساني.
مريعٌ انقراض النحل بشكلٍ قوي لمن قرأ أخيراً كتاباً إنسكلوبيديّاً مدهشاً، يسرد شغف الفلسفة والفكر الإنساني بالنحل، منذ مهد الفكر الإنساني: "النحل والـ فيلسوف"، من تأليف الأخوين بيير هنري وفرانسوا تافوالو، الأوّل أستاذٌ في الفلسفة في جامعة السوربون عاشق للنحل، والثاني نحّال عاشق للفلسفة.
فمنه اكتشفتُ أن الإنسان، منذ أن صار يفكٍّر، أعجب بالنحل كما لم يعجب بكائنٍ حيٍّ آخر. رأى في نمط حياة خليّة النحل تكثيفاً لِحياة البشر: مجتمعٌ ينتج، يبني، يُحوِّل، يعالج، يدافع عن نفسه، يهاجر، يحارب. ويتغذّى من رحيق الأزهار ـ غذاء الآلهة ـ ليفرز العسل: المنتوج الطبيعي الوحيد الذي لا يتخثّر أبداً، ولذلك استخدمه في تحنيط الملوك. ثمّ النحل، كما يقول المؤلفان: الجسر الذي يؤالف بين المتضادات، وهو ينتقل من "الطبيعة" إلى "الثقافة": يلدغ بشكلٍ مؤلم، ويفرز ألذّ غذاء.
للنّحل دورٌ جوهريٌّ في الميثولوجيا الإغريقية: من ناحيةٍ، لم يصبح كبير آلهة الأولمب، زوس، جبّاراً قادراً على منافسة وهزيمة والده كورنوس، إلا لأنه تغذّى في طفولته بالعسل، وخدَعهُ يوماً بوجبةٍ مغمورةٍ بالعسل. ومن ناحيةٍ أخرى، كانت نهاية "شهر العسل" بين الآلهة أورفيه وأوريديس نتيجة "لدغة" إرستيه، ربّ النحل في ميثولوجيا الإغريق، الذي دفع ثمناً لذلك: انقراض نحله، ربّما تفجّرَ حينها الخوف الميثولوجي من ذلك الانقراض، الذي تعكسهُ ما تُسمّى بنبوءة آينشتاين.
من القصّتين يظهر مجدّداً أن النحل سيفٌ ذو حدِّين: اللدغة والعسل، وجسرٌ بين الطبيعة والثقافة، كما قال المؤلفان.

اقرأ أيضاً: ذاكرة المغارات

قضّى كبير فلاسفة الإغريق، أرسطو، حياته يدرس النحل، وكتب عنها أكثر ما كتب عن الكائنات الحيّة غير الإنسان. درسها لأنها بالنسبة له: كونٌ مصغّر.
كذلك شأن كلّ فلاسفة ومفكري الغرب تقريباً: اهتمّ بها الجميع، من فيرجيل والقديس أوغسطين، إلى كلّ فلاسفة الحداثة حتّى ماركس وهايديجر، مروراً بمفكّري العلم الحديث، كلٌّ حسب تخصصة ومزاجه: النحل لهذا الفيلسوفِ رمزٌ للمَلَكيّة، ولذاك رمزٌ للديمقراطية أو الجمهورية، وللقديسِ المسيحي رمزٌ للإخصاب بلا دنس.
ولكلمة "العسل" في اللاوعي العربي مدلولٌ يراوح بين "النعيم" و"اللذة". وفي الفكر الإسلامي، للنحل مقامٌ استثنائي: آيتان تجليليّتان في سورةٍ النحل: "وأوحى ربّكَ إلى النحل"، و"نهرٌ من عسلٍ مصفّى" في جنة المسلمين. هناك عدّة أحاديث شريفة تُشبِّهُ المؤمنَ بالنحلة، ونصوصٌ فقهيّة لابن الأثير مثلاً في الاتجاه نفسه. وقد لخّص الإمام كمال الدين الدميري حياة النحل في كتابه "حياة الحيوان"، كما كان يتصوّرها ناس ذلك الزمان.
يجهلُ الكثيرون أن اكتشاف العلم تشريحَ النحل، بفضل ميكروسكوب جاليلو، قد أدّى دوراً رئيساً في انطلاق الثورة العلميّة. دورٌ يماثل مستوى دور جاليلو الذي دحض المسلّمات الفلكية العتيقة. وقبل ذلك، كان العالم أجمع، منذ الأزل، يظنُّ أن ملِكةَ النحل ذكرٌ سُمِّيَ دوماً: ملِك النحل، أو اليعسوب، بالعربية. فوفقًا لمعاجم لغتنا: "اليعسوب ملكة النحل، وكان العرب يعتقدون أنها ذَكَر". كذكَرٍ تحدّث عنها الدميري وفقهاء الإسلام. وقد سقطت المسلّمةُ الذكورية هذه، بفضل اختراع الميكروسكوب وتطويره، وكانت أوّل دراساته التجريبية حول النحل تحديداً.