إذا أردنا كتابة كلمات شكر وعرفان لصحفي ومحرر المقالات العلمية السير جون مادوكس، فعلينا تسليمها في آخر لحظة قبل جمع الصحيفة، فقد كانت هذه هي الطريقة التي يعمل بها جون مادوكس وهو منكب على كتابة افتتاحياته. كان يسلم بعض هذه الافتتاحيات في وقت متأخر بحيث كان يتم تنضيد سطورها الأولى قبل تأليفه لسطورها الآخيرة، ولكن السير جون الذي توفي في 12 أبريل الماضي، كان أكبر من مجرد كاتب يعاني صعوبة في موعد تسليم المقالات، فقد كان رائد الصحافة العلمية الحديثة.
في سياق تحويله لنشرة محدودة وذابلة تدعى Nature إلى مجلة علمية ذات تأثير على المستوى العالمي، دفعته غريزته نحو إدخال العلوم في الصحف البريطانية بطريقة لم تحدث من قبل، كما روج للموضوعات العلمية من خلال هيئة الإذاعة البريطانية "بي. بي. سي" وربما كان الأهم هو قيامه بتدريب جيل من الباحثين والكتاب الذين كانوا يسعون وراء العقلانية العلمية، دون التخلي عن الإحساس بكل ما هو غريب وغير مألوف، والعديد منهم الآن يعمل بقسم العلوم والتكنولوجيا بمجلة The Economist.
عندما وصل سير جون إلى مطبوعة Nature في عام 1966م، بعد أن عمل لمدة عشر سنوات في "الجارديان" كانت المطبوعة في حالة ركود، كانت مكاتبها مكدسة بعدة آلاف من المخطوطات اليدوية الصفراء، تم تصنيف هذه المخطوطات بسرعة وأدخل دون نظام مراجعة الأنداد (وهو عبارة عن استشارة خبراء من الخارج لتقييم القيمة العلمية لمقال مكتوب)، وكذلك جعل كل مخطوطة تحمل تاريخ تقديمها، أراد أن تظهر نشرة Nature في شكل صحيفة ويتم تقييمها بمدى سرعة نشرها للأخبار العلمية وبغيرها من المقاييس، وتمت أيضًا مراجعة المخطوطات من حيث الأسلوب والشمول والدقة.
ولحرصه على تقديم صحيفة حافلة بالأخبار، بدأ كتابة الافتتاحيات، وقدم فيها رأيه جنبًا إلى جنب الحقائق والمعلومات، كما عين مراسلاً حقيقيًا إلى جانب محرري المخطوطات، وهو صحفي مبتدئ يدعى نيجيل هوكس، الذي سيتقدم في عمله ليصبح المحرر العملي لمجلة "تايمز" كان هوكس هو أول من تعلم على يده مادوكس، ولكنه ليس الأخير.
فكر عالميًا.. واعمل محليًا
كان هناك سبب واحد وراء كل هذا النشاط الذي بذله مادوكس عندما وصل إلى Nature، ألا وهو فقدانها الكثير من شعبيتها لمصلحة مطبوعة أمريكية تدعى Science.
شهدت فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تحولاً في السلطة العلمية من أوروبا إلى أمريكا، وهو ما استفادت منه Science، ذكر ألون أندرسون، أحد تلامذة مادوكس ويعمل حاليًا في New Scientist، أن سير جون تعامل مع هذا التحول بأن قام بنشر مجلة Nature عالميًا وفتح لها مكاتب في أمريكا واليابان، وفي الوقت المناسب، في أماكن أخرى من العالم.
تتطلب العولمة، بطبيعة الحال، توفير الأنباء العلامية. لكن السير جون كان مستعدًا لذلك.
يشير هنري جي، وهو تلميذ آخر، إلى خدعة أطلق عليها السير جون اسم "تأثير أفغانستان". "يمكنك كتابة خبر صغير يفيد بعدم وقوع أحداث مهمة في أفغانستان، وسيعتقد الناس بأن Nature تغطي أفغانستان".
كما كان حريصًا على التوافق مع إخطارات حظ النشر، ومن خلاله تُمنح الصحف تنبيهًا مسبقًا بنشر جزء من أحد الأبحاث إذا وافقت على تأخير الكتابة عنه حتى تاريخ معين، ويتأكد من ذكر الصحيفة التي نشرته.
يتذكر جون جيبون، مؤلف علمي شهير وهو أحد تلامذة مادوكس أيضًا، مدى غضب مادوكس تجاه الحظر عندما تقع في يده ورقة عمل مثيرة، كان سير جون يريد لـ Nature أن تحقق سبقًا بنشر هذه القصة، وكان ذلك يتسبب في دخوله في صدام مع المحررين في الصحافة البريطانية الذين يريدون أن ينسبوا الفضل لأنفسهم.
لقد عمل مادوكس على إعلاء صورة Nature، وكان لا يخشى على نفسه من العلاقات العامة، كما أنه سلك الطريق إلى باب المختبرات بحثًا عن مادة لصالحة للنشر، وهي ممارسة لا تزال تأخذ مسارها حتى يومنا هذا، حيث تتنافس مطبوعات كبرى مثل Science وCell و Nature وغيرها على الحصول على مقالات وأوراق بحث من كبار الباحثين في العالم.
يذكر ديفيد ديكسون، وهو محرر أخبار سابق بـ Nature، أن العقلانية العلمية ليسر جون دفعته إلى الكثير من المسائل المثيرة للجدل وهو ما أدى أيضًا إلى الإعلاء من صورة المجلة. فقد قاد هجومًا على منكري مرض الإيدز ومؤيديهم في صحيفة صنداي تايمز، وانتهى المطاق بإثارة الجدل حول العلاج المثلي، والدمج البارد، والصراع مع عالم الباراسيكولوجيا روبرت شلدراك. وهناك تلميذ آخر لمادوكس هو كريس أندرسون، محرر بمجلة Wired، يصف مادوكس بأنه الرجل "الذي لا يخاف" والذي يتحدى أي شخص يشعر أنه قد تخلى عن مبادئ العلم سعيًا وراء معتقداته الخاصة.
برغم دعم السير جون لمراجعة الأنداد، كان قادرًا على ملاحظة كيف يمكن لهذا النظام أن يخنق التفكير الأصلي في بعض الأحيان. لهذا السبب، لم يكن يرسل أبدًا مخطوطات عالم الفيزياء الفلكية المثير للجدل فريد هويل إلى المراجعة.
في إحدى مقالات الوداع، كتب مادوكس قائلاً: "لم يكن الأمر يحتاج إلى حكم للقول ما إذا كان من المعقول الافتراض بأن الحياة على الأرض تنبع من البكتيريا الموجودة بين النجوم"، لقد لعب الأسلوب والقدرة على تتبع الأخبار دورًا مهمًا في عالم السير جون، بغض النظر عن كونه بطل العقلانية العلمية.
والنتيجة هي أن مجلة Nature تعد حاليًا منفذًا لأفضل الأخبار العلمية في العالم، ومع ذلك، فإن أكثر الصحفيين جنونًا بها لم يعد موجودًا، ولم يعد الموظفون بحاجة إلى كبح جماحه، على حد قول ألون أندرسون.
وتعد مجلة Nature مكانًا أكثر تنظيمًا ومهنية اليوم ولا تزال تسري فيه روح سير جون مادوكوس.
--------------------------------------------------------------------------------
*نقلا عن مجلة العربي العلمي عدد سبتمبر 2009
في سياق تحويله لنشرة محدودة وذابلة تدعى Nature إلى مجلة علمية ذات تأثير على المستوى العالمي، دفعته غريزته نحو إدخال العلوم في الصحف البريطانية بطريقة لم تحدث من قبل، كما روج للموضوعات العلمية من خلال هيئة الإذاعة البريطانية "بي. بي. سي" وربما كان الأهم هو قيامه بتدريب جيل من الباحثين والكتاب الذين كانوا يسعون وراء العقلانية العلمية، دون التخلي عن الإحساس بكل ما هو غريب وغير مألوف، والعديد منهم الآن يعمل بقسم العلوم والتكنولوجيا بمجلة The Economist.
عندما وصل سير جون إلى مطبوعة Nature في عام 1966م، بعد أن عمل لمدة عشر سنوات في "الجارديان" كانت المطبوعة في حالة ركود، كانت مكاتبها مكدسة بعدة آلاف من المخطوطات اليدوية الصفراء، تم تصنيف هذه المخطوطات بسرعة وأدخل دون نظام مراجعة الأنداد (وهو عبارة عن استشارة خبراء من الخارج لتقييم القيمة العلمية لمقال مكتوب)، وكذلك جعل كل مخطوطة تحمل تاريخ تقديمها، أراد أن تظهر نشرة Nature في شكل صحيفة ويتم تقييمها بمدى سرعة نشرها للأخبار العلمية وبغيرها من المقاييس، وتمت أيضًا مراجعة المخطوطات من حيث الأسلوب والشمول والدقة.
ولحرصه على تقديم صحيفة حافلة بالأخبار، بدأ كتابة الافتتاحيات، وقدم فيها رأيه جنبًا إلى جنب الحقائق والمعلومات، كما عين مراسلاً حقيقيًا إلى جانب محرري المخطوطات، وهو صحفي مبتدئ يدعى نيجيل هوكس، الذي سيتقدم في عمله ليصبح المحرر العملي لمجلة "تايمز" كان هوكس هو أول من تعلم على يده مادوكس، ولكنه ليس الأخير.
فكر عالميًا.. واعمل محليًا
كان هناك سبب واحد وراء كل هذا النشاط الذي بذله مادوكس عندما وصل إلى Nature، ألا وهو فقدانها الكثير من شعبيتها لمصلحة مطبوعة أمريكية تدعى Science.
شهدت فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تحولاً في السلطة العلمية من أوروبا إلى أمريكا، وهو ما استفادت منه Science، ذكر ألون أندرسون، أحد تلامذة مادوكس ويعمل حاليًا في New Scientist، أن سير جون تعامل مع هذا التحول بأن قام بنشر مجلة Nature عالميًا وفتح لها مكاتب في أمريكا واليابان، وفي الوقت المناسب، في أماكن أخرى من العالم.
تتطلب العولمة، بطبيعة الحال، توفير الأنباء العلامية. لكن السير جون كان مستعدًا لذلك.
يشير هنري جي، وهو تلميذ آخر، إلى خدعة أطلق عليها السير جون اسم "تأثير أفغانستان". "يمكنك كتابة خبر صغير يفيد بعدم وقوع أحداث مهمة في أفغانستان، وسيعتقد الناس بأن Nature تغطي أفغانستان".
كما كان حريصًا على التوافق مع إخطارات حظ النشر، ومن خلاله تُمنح الصحف تنبيهًا مسبقًا بنشر جزء من أحد الأبحاث إذا وافقت على تأخير الكتابة عنه حتى تاريخ معين، ويتأكد من ذكر الصحيفة التي نشرته.
يتذكر جون جيبون، مؤلف علمي شهير وهو أحد تلامذة مادوكس أيضًا، مدى غضب مادوكس تجاه الحظر عندما تقع في يده ورقة عمل مثيرة، كان سير جون يريد لـ Nature أن تحقق سبقًا بنشر هذه القصة، وكان ذلك يتسبب في دخوله في صدام مع المحررين في الصحافة البريطانية الذين يريدون أن ينسبوا الفضل لأنفسهم.
لقد عمل مادوكس على إعلاء صورة Nature، وكان لا يخشى على نفسه من العلاقات العامة، كما أنه سلك الطريق إلى باب المختبرات بحثًا عن مادة لصالحة للنشر، وهي ممارسة لا تزال تأخذ مسارها حتى يومنا هذا، حيث تتنافس مطبوعات كبرى مثل Science وCell و Nature وغيرها على الحصول على مقالات وأوراق بحث من كبار الباحثين في العالم.
يذكر ديفيد ديكسون، وهو محرر أخبار سابق بـ Nature، أن العقلانية العلمية ليسر جون دفعته إلى الكثير من المسائل المثيرة للجدل وهو ما أدى أيضًا إلى الإعلاء من صورة المجلة. فقد قاد هجومًا على منكري مرض الإيدز ومؤيديهم في صحيفة صنداي تايمز، وانتهى المطاق بإثارة الجدل حول العلاج المثلي، والدمج البارد، والصراع مع عالم الباراسيكولوجيا روبرت شلدراك. وهناك تلميذ آخر لمادوكس هو كريس أندرسون، محرر بمجلة Wired، يصف مادوكس بأنه الرجل "الذي لا يخاف" والذي يتحدى أي شخص يشعر أنه قد تخلى عن مبادئ العلم سعيًا وراء معتقداته الخاصة.
برغم دعم السير جون لمراجعة الأنداد، كان قادرًا على ملاحظة كيف يمكن لهذا النظام أن يخنق التفكير الأصلي في بعض الأحيان. لهذا السبب، لم يكن يرسل أبدًا مخطوطات عالم الفيزياء الفلكية المثير للجدل فريد هويل إلى المراجعة.
في إحدى مقالات الوداع، كتب مادوكس قائلاً: "لم يكن الأمر يحتاج إلى حكم للقول ما إذا كان من المعقول الافتراض بأن الحياة على الأرض تنبع من البكتيريا الموجودة بين النجوم"، لقد لعب الأسلوب والقدرة على تتبع الأخبار دورًا مهمًا في عالم السير جون، بغض النظر عن كونه بطل العقلانية العلمية.
والنتيجة هي أن مجلة Nature تعد حاليًا منفذًا لأفضل الأخبار العلمية في العالم، ومع ذلك، فإن أكثر الصحفيين جنونًا بها لم يعد موجودًا، ولم يعد الموظفون بحاجة إلى كبح جماحه، على حد قول ألون أندرسون.
وتعد مجلة Nature مكانًا أكثر تنظيمًا ومهنية اليوم ولا تزال تسري فيه روح سير جون مادوكوس.
--------------------------------------------------------------------------------
*نقلا عن مجلة العربي العلمي عدد سبتمبر 2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق