موقع كارل بوبر في الثقافة العلمية
2009-12-28
د.الطيب بوعزة - العرب
يَعُد الكثير من الباحثين كارل بوبر أكبر فلاسفة العلم في القرن العشرين، وهذا الوصف في نظري لا يخلو من مبالغة مفرطة، لكن إذا أنقصنا منه مقدار المبالغة فإن الباقي يكفي لأن يشير إلى حقيقة لا مراء فيها ولا جدال، وهي مكانة كارل بوبر في أبحاث فلسفة العلوم، وفرادة طرحه في تحديد دلالة العلم ومعيار تمييزه. إلا أنه لمقاربة هذا الطرح وإبراز هذا التميز والفرادة نحتاج إلى استحضار السياق الثقافي والشرط المعرفي الذي اكتنف ظهور نظريته.
لقد عاش كارل بوبر السنوات الأولى لنشأة حلقة فيينا، تلك الحلقة التي تأسست حول موريس شليك. ومن الملاحظ أن ثمة شرطا تاريخيا غالبا ما يغيب في الدراسات المتناولة لهذه الجماعة، حتى تلك التي اهتمت بتحديد المؤثرات التي أسهمت في تأسيس وعيها الأبستمولوجي، وأقصد بهذا الشرط أن النخبة المثقفة في النمسا -ومن ضمنها مفكرو حلقة فيينا- كانت تستشعر سؤالا تاريخيا مقلقا، وهو تخلف النمسا علميا بالمقارنة مع ألمانيا. فهذا التخلف شكل داخل وجدان المثقف النمساوي انفعالا نفسيا وانبهارا بالتقدم والخطاب العلمي المنتج له. وهذا الانبهار هو ما يفسر لنا الرؤية الحسية المفرطة التي انساقت إليها هذه الحلقة، والتقدير المبالغ للخطاب العلمي وطرائقه المنهجية في التفكير ومقاربة الوجود. فقد كان سؤال تأسيس معيار لتمييز الخطاب العلمي عن غيره سؤالا مركزيا عند حلقة فيينا، لكن المناخ المتخلف عن مرتبة التقدم العلمي الذي عانت منه النمسا وقتئذ، إضافة إلى شروط معرفية وثقافية أخرى لا مجال للتفصيل فيها الآن، خلص بهم إلى تسطير إجابة متطرفة جدا، حيث انتهى أقطاب الحلقة إلى تأسيس نظرية «سميوطيقية» تختزل الخطاب العلمي عن العالم في الخطاب القائم على المطابقة الدلالية الحسية لمنطوقاته، أي معايرتها بشرط التطابق مع الواقع.
في سياق هذا المناخ الباحث عن معيار لتمييز ما هو علم عما ليس بعلم تبلور فكر بوبر، وهيمن سؤال المعيار هذا على انشغالاته الفكرية، ليخلص به إلى إجابة جديدة متمايزة عما انتهت إليه حلقة فيينا.
فما العلم حسب بوبر؟ وما الذي يميز الخطاب العلمي عن غير من أشكال وأنماط الخطاب المعرفي التي ينتجه الإنسان؟
للإجابة على هذا الاستفهام لابد من البدء أولا بموقف بوبر من إشكال الاستقراء، فقد كانت مسألة الاستقراء والإشكالات المنهجية التي طرحها في تاريخ العلم والفلسفة نقطة انطلاق تفكيره وأرضية تأسيس مشروعه الأبستمولوجي. ففي كتابه الأشهر «منطق البحث» Logik der Forschung الذي سيترجم، إلى الإنجليزية والفرنسية وغيرهما من اللغات ومن ضمنها اللغة العربية، مع تغيير في عنوانه إلى «منطق الاكتشاف العلمي»، نلاحظ تركيزا واضحا على بحث المسألة الاستقرائية ومناقشة النقد الهيومي لها. ومن المعلوم أن هيوم انتهى إلى القول بأن الاستقراء لا يقبل التبرير العقلي، فبما أن السببية هي مجرد عادة ذهنية ناتجة عن اقتران، وليس لها أية حقيقة أنطلوجية على مستوى الواقع، فإن المعرفة العلمية التجريبية هي -بسبب ارتكازها على السببية- لا يمكن أن نزعم لها صفة الحقيقة.
هذه الشكية الهيومية لم يقبلها بوبر، مثلما لم يقبل النزوعات الشكية عامة، تلك التي تنتهي إلى موقف شاك في وجود العالم ذاته. بل إن بوبر يستهجن حتى ذلك النقاش الذي ساد الفلسفة حول وجود العالم، حيث يؤكد ساخرا من هذا الموقف الشكي أن النقاشات التي شهدها تاريخ الفكر الفلسفي حول وجود العالم هي «أكبر فضائح الفلسفة»، فمجرد طرح وجود العالم محل استفهام وشك هو ليس بحثا معرفيا بل لا يستحق وسما آخر غير الفضيحة.
لذا يؤكد بوبر -ضدا على الشكية- أن العالم موجود، وأن المعرفة العلمية هي بالأساس معرفة هذا العالم. لكن بوبر لا يصل إلى القول بأن هذه المعرفة تبلغ إلى معرفة حقيقة الوجود/العالم ذاتها. بل إنه يقترب هنا -كما يقول الفيلسوف الفرنسي جاك بوفريس- من المفهوم الكانطي للمعرفة المحدودة بحدود عالم الظاهر وعدم بلوغها إلى «الشيء في ذاته». فكما يقول الفيلسوف الإغريقي هيراقليط «إن الطبيعة تحب الاختفاء». وهذه الحقيقة المختفية حسب كانط وبوبر لا سبيل إلى إظهارها وكشفها تماما.
لكن هذه العلاقة المعرفية الواصلة بين الذات والعالم في المعرفة البشرية -ومن ضمنها نمط المعرفة العلمية- يذكرنا بالمفهوم الفلسفي للحقيقة القائم، منذ الأفلاطونية، على نظرية المطابقة، والذي سيشن عليه هيدغر حملة نقدية شديدة مقدما مفهوم الانكشاف (الألثيا) بديلا عنه.
فهل يقول بوبر هو كذلك بنظرية المطابقة؟
أجل، لكنه يقول بها على نحو ممايز عن التقليد الفلسفي الأفلاطوني، حيث إن نظرية المطابقة التي تبناها بوبر هي نظرية المنطقي ألفرد تارسكي Tarsky، فالخطاب المعرفي يقوم بالفعل على علاقة المطابقة، إذ يجب أن يطابق الوقائع التي يختص ببحثها لكي يكون خطابا حقيقيا. لكن بما أن كل خطاب لا يصل إلى حقيقة الواقع/الوجود، فليس ثمة خطاب حقيقي.
قد يبدو هذا الكلام -كما لاحظ بحق بوفريس- سقوطا في الشكية الهيومية التي نقدها بوبر، لكن ثمة تمايز واختلاف، فالشكية التي تبناها بوبر هي شكية نقدية لا هيومية. حيث يذهب إلى استحضار دلالة لفظ الشك والشكية في الفلسفة القديمة، فيلاحظ أن لفظ «scpesis» كان يطرح مع شيشرون وسكتوس أمبريكوس بمعنى «الاختبار النقدي». ومن ثم فالوقوف موقف شك أمام المعرفة ليس معناه السقوط في عدمية المعنى، بل هو موقف نقدي من المعرفة ناتج عن إدراك محدوديتها، ومن ثم ضرورة العمل على تجويدها باستمرار.
إذن بناء على هذا الوعي النقدي، وبناء على كون الحقيقة شيئا لا نمتلكه، بل أفقا نسير نحوه سيؤسس بوبر معياره لتمييز الخطاب العلمي.
http://alarab.com.qa/details.php?docId=111576&issueNo=740&secId=18
Tayebbouazza@yahoo.fr
.............................................................................