الثلاثاء، 21 يوليو 2009

الصعود الى القمر ام التعاون العلمي على الارض؟



الصعود الى القمر ام التعاون العلمي على الارض؟

د. سعيد الشهابي
القدس العربي

احتفلت الولايات المتحدة الاسبوع الماضي بمرور اربعين عاما على رحلة الفضاء التاريخية التي أوصلت الانسان الى القمر. واعادت الى الذاكرة المشاعر التي عمت العالم في تلك الحقبة الزمنية المتميزة، سواء على صعيد الحرب الباردة التي بلغت ذروتها، ام تزامنها مع تصاعد حرب فيتنام والحراك السياسي والفكري الذي احاطها، ام على صعيد السجال الفكري والسياسي الذي أعقب حرب 1967. الاحتفاء بالذكرى اتخذ انماطا عديدة اهمها المحاضرات واللقاءات الاعلامية مع رواد الفضاء الثلاثة الذين قطعوا حوالي نصف مليون ميل (ذهابا وايابا) في الرحلة التي استغرقت ثمانية ايام.كان الهبوط على القمر يومها امرا خارجا عن التصور البشري، فانتشرت الاشاعات والتشكيكات في ما اذا كان قد حدث فعلا ام ان القضية كلها خديعة امريكية للعالم. وتزخر صفحات الانترنت بالنظريات الكثيرة التي تشكك في ما حدث في الايام الثمانية التي أعقبت السابع عشر من تموز (يوليو) 1969، وهو اليوم الذي انطلقت فيه المركبة الفضائية المذكورة وعلى ظهرها كل من نيل آرمسترونغ ومايكل كولينز وادوارد ألدرين. وبرغم هذه الرحلة المتميزة الا ان علاقة رجال الفضاء الثلاثة لم تتواصل بعدها، وقلما التقوا او تواصلوا طوال العقود الاربعة الماضية. وبرغم انهم تحولوا الى أيقونات بارزة، الا ان المقربين منهم يؤكدون انهم ليسوا من النوع الذي يبحث عن الاضواء، خصوصا ان بعضهم بدأ يفكر في الابعاد الفكرية والعقيدية لمثل هذه التطورات، حتى انتشرت شائعات بتحول آرمسترونغ الى الاسلام، الامر الذي لا يبدو دقيقا. وكثيرا ما يجد المسؤولون الذين يرتقون مناصب عليا انفسهم امام تحولات فكرية وسياسية بعد استيعاب التجارب التي مروا بها. وتبدو قصة روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الامريكي السابق في ذروة حرب فيتنام، الذي توفي قبل اسبوعين، واحدة منها. فبعد ان كان المهندس المسؤول عن تلك الحرب خصوصا اسلوب 'القصف السجادي carpet bombing' المكثف واستعمال النابالم في شمال فيتنام، الا انه استقال من منصبه في 1968 احتجاجا على الحرب، واصبح أحد المنظرين ضدها. لكنه التزم الصمت ولم يصدر مذكراته الا في 1995، بعنوان: 'نظرة الى الوراء: تراجيديا فيتنام ودروسها'.وفيما يستمر النقاش حول الخطوة المقبلة في مشروع الاستكشافات الفضائية، يتواصل السجال حول قضايا وخيارات مختلفة. فهل تتكرر الرحلات الى القمر؟ وما مزاياها؟ وما الهدف منها؟ هل تبدأ الرحلات الى المريخ؟ ومن أين؟ هل تكون الارض منطلقا لتلك الرحلات ام القمر؟ ماذا يريد الانسان من هذه الاستكشافات؟ هل هناك قناعة راسخة لدى علماء الفضاء بوجود عوالم اخرى وكائنات مختلفة يمكن التواصل معها مستقبلا؟ المعروف ان رجال الفضاء الثلاثة نصبوا لافتة على سطح القمر تقول: 'جئنا من اجل السلام لكل الجنس البشري' والى جانبها تذكار على شكل غصن زيتون. ثمة تساؤلات مهمة تثار هنا: هل هذه الاستكشافات من أجل السلام حقا؟ فحتى الآن لم تتضح الغاية الواضحة منها، برغم تكاليفها الباهظة. ووفقا للتقارير المتوفرة فقد انفقت الولايات المتحدة خلال السنوات السبع التي سبقت رحلة الهبوط على سطح القمر، 240 مليار دولار، وهو رقم خيالي حتى بالمعدلات الحالية. الرئيس كندي دشن مرحلة الانفاق الهائل على المشاريع الفضائية، في فترة تصاعد الحرب الباردة ودفع مشروع الفضاء الامريكي خطوات الى الامام خصوصا بعد ان دشن يوري غاغارين الروسي في 1961عصر الفضاء الحديث. جاء ذلك كله بعد حادثتين مهمتين ساهمتا في توتير العلاقات الامريكية السوفيتية. الاولى تنصيب الصواريخ الروسية في كوبا في 1962 بقرار من الرئيس السوفييتي آنذاك، نيكيتا خروشوف. والثانية حادثة خليج الخنازير في العام السابق (1961) عندما قامت الولايات المتحدة بتسليح جيش من اللاجئين الكوبيين وشجعتهم على غزو كوبا لاسقاط نظام كاسترو، ولكن القوات الكوبية المدعومة بخبرات المعسكر الشرقي، هزمت المهاجمين وابادتهم في غضون ثلاثة ايام. هاتان الحادثتان ساهمتا بشكل مباشر في دفع الطرفين الى تدشين مشاريع الفضاء العملاقة. وجاء الهبوط على سطح القمر تتويجا لتلك المشاريع. ولوحظ ان المرحلة اللاحقة شهدت توجها يختلف جوهريا تمثل بالتسابق المحموم في مجال صناعة الطائرات العسكرية والصواريخ. كل ذلك جاء في ضوء اكتشاف القنابل النووية التي شهدت اول تجربة ميدانية في المراحل الاخيرة من الحرب العالمية الثانية بتفجير هيروشيما وناغازاكي بقنابل ذرية امريكية.هذه التطورات المتلاحقة كانت من جهة نتيجة السباق العلمي والتكنولوجي الذي تصاعد بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها كانت ايضا دافعا لتصعيد ذلك التسابق بشكل غير مسبوق. وقد اصبح التجسس العلمي واحدا من أهم مجالات التماس بين الطرفين. وثمة ظواهر اخرى ارتبطت بهذا السباق. ولعل الظاهرة الاهم هنا، ان التطورات العلمية والتكنولوجية اتخذت طابعا عسكريا في الدرجة الاولى، الامر الذي يضفي سمة مميزة للعلم وآفاقه في المنظور الغربي. وهناك الآن ثلاثة مجالات لتجسيد التطور العلمي الهائل الذي ميز العقود الثلاثة الاخيرة، وهي تكنولوجيا 'الهاتف النقال' والكومبيوتر الشخصي، والانسان الآلي (الروبوت) وقد تم تطويرها من قبل المؤسسات العسكرية الامريكية والروسية. وتعتبر وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي آي أيه) أكبر حاضنة للبحوث العلمية في العالم. فالعقول العلمية البحثية تعمل ضمنها وتسبق كافة المجالات في تطورها. ولم يصل الهاتف النقال او الكومبيوتر الشخصي الى الاسواق العامة الا قبل قرابة العقدين، بينما كانا متوفرين لدى المؤسسة العسكرية منذ الستينات. هذه الحقيقة تضفي على العلم طابعا آخر، وتربطه بغايات ومهمات غير نظيفة تركز على تطوير أدوات الموت كوسيلة للهيمنة والاستكبار وتوسيع دوائر النفوذ. بينما يفترض ان يكون العلم وسيلة لجمع البشر وتطوير اوضاعهم وتحسين انماط عيشهم كهدف اول. فما الذي يجعل الحرب المضمار الاول لتطوير البحوث العلمية؟ ولماذا هذا الانفاق الهائل على البحوث ذات الطابع العسكري سواء في الارض ام المحيطات ام الفضاء؟ وكيف يمكن تحويل هذا الكوكب الى واحة سلام في ظل تواصل السباق العسكري الذي يستحوذ على حصة الاسد من اموال الناس في كافة زوايا العالم؟ ان هناك ضرورة لنقاش فلسفي فكري أخلاقي قيمي حول العلم ومدى امكان تطويره باستقلال عن دوافع القوى الهادفة لتحقيق مكاسب مادية وعسكرية كهدف اول؟ ان الغرب يمارس 'تسييس العلم' بانماط غير مسبوقة. فالعلم ليس للجميع بل لفئات محدودة، وشيئا فشيئا تتحول دور العلم ومعاهده الى مؤسسات تجارية او توجه نحو المزيد من العسكرة وصناعة ادوات القهر والاستعباد. وهناك سياسات تزداد رسوخا بمنع قطاعات من الطلبة من الالتحاق ببعض فروع العلم لمنع انتقال التكنولوجيا من الغرب الى العالم الاسلامي. وقد كرر المسؤولون البريطانيون تصريحات مفادها ان حكوماتهم تراجع الإجراءات المتعلقة بدراسة الطلبة الأجانب للمواد الحساسة في الجامعات البريطانية.. والمقصود بـ'المواد الحساسة' 'الهندسة النووية وتكنولوجيا الصواريخ والدفع النفاث والتقنيات الكيميائية والجرثومية التي يمكن أن تستفيد منها 'الدول الخطيرة او المارقة'. هذا التصريح يشبه القانون الشهير الذي أقره مجلس النواب الأمريكي عام 2002 بخصوص حظر أو تشديد الرقابة على بعض التخصصات التي يدرسها طلاب سبع دول أجنبية (أربع منها عربية). هذا الحصار العلمي ليس جديدا فقد بدأ بمنع الطلبة الكوبيين في الستينات من دراسة بعض التخصصات بالجامعات الامريكية، وفي الثمانينات عانى الطلبة الليبيون اجراءات مماثلة في بريطانيا، وحدث الامر نفسه لطلبة ايران وكوريا الشمالية وسوريا ولبنان. يضاف الى ذلك استهداف العلماء المسلمين بالتهديد او القتل. فقد كشف تقرير أمريكي أن جهاز الموساد الإسرائيلي تمكن بالاشتراك مع القوات الأمريكية في العراق حتى منتصف 2007 من قتل 550 عالما واستاذا جامعيا في المعارف العلمية المختلفة. وقتل علماء آخرون من بينهم عالمة الذرة المصرية سميرة موسى التي نالت الدكتوراه في الفيزياء الذرية واغتيلت في 1952 بعد اصرارها على العودة لمصر. وهي أول عالمة ذرة مصرية ولقبت باسم ميس كوري الشرق. وقتل الدكتور سمير نجيب، عالم الذرة المصري في 1967 قبل يوم واحد من سفره المزمع الى مصر. وفي 1989 قتل عالم الفيزياء المصري سعيد بدير المتخصص في مجال الاتصال بالأقمار الصناعية والمركبات الفضائية خارج الغلاف الجوي الذي رفض البقاء في ألمانيا وأمريكا، فألقي من شرفة منزله من قبل 'رجل مجهول' بعد يومين فقط من وصوله الاسكندرية. وما يزال العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان، محاصرا في منزله برغم مرض السرطان الذي يعاني منه، بتحريض مباشر من الولايات المتحدة.في هذا السياق يمكن استيعاب الحملة الشرسة التي يقودها الغرب ضد ايران، بهدف افشال مشروعها النووي. فالمطلوب ان لا يتمكن العلماء الايرانيون من امتلاك دورة كاملة من التصنيع النووي. وبرغم اصرار ايران على عدم سعيها لامتلاك سلاح نووي، الا ان الضغوط تتصاعد عليها، ومن ضمنها التهديدات الاسرائيلية المتواصلة بالاعتداء عليها. بينما 'اسرائيل' هي التي ترفض التقيد بالشرائع الدولية وترفض التوقيع على معاهدة منع انتشار الاسلحة النووية، او السماح بفرق التفتيش الدولية على منشآتها النووية. ان اخلاقية التعامل هذه مع العلم والتكنولوجيا تفتقر الى البعد الانساني من جهة والقيم الاخلاقية من جهة اخرى. ويفترض ان يكون العلم حقا انسانيا للجميع، يعلو على الخلافات الفكرية او السياسية، ويتجاوز الحدود الجغرافية. فلولا التجربة التراكمية الانسانية لما تطورت العلوم عبر التاريخ، ولولا تفاعل الحضارات وتعاونها العلمي وتبادل الخبرات لما توسعت دائرة العلم وآفاقه. وفي عصر العولمة وتوسع الشبكة المعلوماتية الدولية تلاشت الحدود، واصبحت المعلومات في متناول الكثيرين. مع ذلك تستطيع الدول المتقدمة علميا انتهاج الممارسات الانتقائية كوسيلة للحماية من الاخطار الوهمية او الحقيقية، ولكن ذلك امر مكلف ومن شأنه ان يؤدي الى توسع الخلافات وتصاعد الازمات بدلا من احتوائها. ففي عالم مفتوح، تصبح اساليب الانعزال والانتقائية غير مضمونة النتائج. وفي عالم يعيش احتقانات سياسية متجددة لاسباب ايديولوجية وسياسية واقتصادية، يتعذر الاستمرار في اساليب احتكار العلم والتكنولوجيا. وعلى سبيل المثال، لم تكن اليابان معروفة بتطورها التكنولوجي عندما كانت الولايات المتحدة تستكشف الفضاء، ولكنها استطاعت في غضون عقود ثلاثة ان تتصدر البلدان الصناعية بتفوق، برغم انها كانت محكومة بقوانين قمعية ناجمة عن تبعات الحرب العالمية الثانية. فقد اصبح انتقال التكنولوجيا الى بلدان العالم الثالث ممكنا برغم سياسات الحماية وإحكام الحدود، وحظر تصدير المنتجات التكنولوجية الدقيقة. ولذلك توسعت اقتصادات هذه الدول بوتائر غير مسبوقة، بينما اصبحت الدول الغربية تميل بشكل مضطرد باتجاه العزلة عن العالم، وعدم القدرة على مواكبة تطوراته.لا شك ان تكنولوجيا الفضاء تطورت كثيرا منذ الهبوط الاول على سطح القمر قبل اربعين عاما. فقد اعقبتها رحلات السير في الفضاء باستعمال المركبات الفضائية (مثل اتلانتيس، تشالنجر وغيرهما). وبرغم التراجع الذي احدثه تفجر المركبة 'تشالنجر' في 1986 و'كولومبوس' في 2003، فقد استمر اطلاق المركبات وآخرها 'انديفور' التي انطلقت الى الفضاء الاسبوع الماضي. ما طبيعة مهمات هذه المركبات؟ وما مدى جدواها خصوصا في ظل الاوضاع الاقتصادية المتردية؟ وهل ما تزال عنوانا للغلبة والقهر وبسط النفوذ على الآخرين؟ ام ان هناك ابعادا انسانية تجعل مشروع التكنولوجيا الفضائية واحدا من اهم المشاريع الانسانية؟ ان هناك ضرورة للتطوير العلمي والتكنولوجي، ولكن هذا التطور لن يكون حميدا ما لم يكن مشفوعا بتطورات اخلاقية وقيمية، تضفي قدرا من القداسة على العلوم البشرية الهادفة للخير والنماء. لقد كان الصعود الى القمر أمرا خارجا على العادة عندما حدث قبل اربعين عاما، وسيظل كذلك ان لم يبادر اصحاب هذه المشاريع للتوجه نحو شعوب الارض لطمأنتهم بشأن تجاربهم الخاصة والتأكيد على البعد الانساني لممارساتهم. ويطرح البعض اليوم ضرورة التركيز على علاج الامراض الخطيرة خصوصا السرطان، وتحويله من مرض يموت الانسان به الى مرض يموت معه وليس بسببه. فلو انفقت الاموال بعيدا عن مشاريع الموت مثل 'حرب النجوم' و'الدرع الاستراتيجي' وغيرها لتطورت الانسانية ولما بقيت مرتجفة عندما تواجه الاوبئة الفتاكة وآخرها 'انفلونزا الخنازير'. انها تحديات علمية كبيرة تتطلب من الجميع التصدي لها واحتواءها ومنع تفاقم آثارها المدمرة، فذلك هو الطريق للتطور والنمو والازدهار، وذلك هو العلم النافع الذي ينفع الانسان، بعيدا عن الرغبة في الفتك والانتقام والهيمنة والنهب والتدمير وكلها غايات تهدد الانسان والبيئة معا.' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

ليست هناك تعليقات: