أزمة البحث العلمي العربي إلى أين؟
للأستاذ أمجد قاسم
نقلا عن مجلة الفيصل العلمية
المجلد السابع، العدد الرابع، يناير – مارس 2010
يعد البحث العلمي المحرك الفاعل والأساسي للتقدم والتطور في كل المجتمعات ولجميع قطاعات الدولة (الإقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والاجتماعية، والتربوية، والثقافية)، ولا يمكن أن تزدهر العلوم والتقنية في أي مجتمع من دون بناء قاعدة أساسية وفاعلة لأنشطة البحث العلمي الهادف لدفع عجلة التنمية والتطور.
ويعد البحث العلمي الفيصل بين الدول المتقدمة والدول النامية، وهو الفارق الجوهري بين دول ولجت إلى القرن الحادي والعشرين ودول أخرى ما زالت على أعتاب القرن التاسع عشر.
ففي وقتنا الراهن، تتسابق الأمم في ميادين المعرفة، وتستثمر الأموال الطائلة في بناء منظومتها الخاصة من المعرفة والتقنية، وتتبارى في الإنجازات العلمية الحديثة، وتتفاخر بثروتها المعرفية والتقنية، بينما نقف – نحن العرب – عاجزين عن المشاركة الفاعلة في تلك الإنجازات، ومندهشين لسرعة التقدم التقني والعلمي الذي تحقق خلال العقود القليلة الماضية، مكتفين باستهلاك ما يقدم إلينا من منجزات علمية ومعرفية، بعد أن ولّت حقبة زمنية زاهرة، قدّم فيها العرب إنجازات كبيرة في ميادين العلوم والمعرفة.
يقول الدكتور نجيب أحمد الجامح في مقال له نشر في صحيفة الإقتصادية الإلكترونية بعنوان (البحث العلمي والتقني في دول مجلس التعاون العربي ترف أم ضرورة؟): "إن مشاركتنا في الحضارة الإنسانية القائمة حاليا تقتصر في أحسن الأحوال على تزويد العالم من حولنا بمصدر للطاقة المحرّكة له، وتوفير سوق استهلاكية لمنتجات هذا العالم، إننا إذا أردنا فعلا أن ننتقل من واقع الاستهلاك الهامشي لمخرجات الحضارة الإنسانية الحديثة إلى المشاركة الفعالة في صنع هذه الحضارة فإن الطريق الوحيد لذلك لا بد أن يمر عبر البحث العلمي والتقني، ولا يوجد طريق آخر مختصر مهما اعتقدنا خلاف ذلك".
وتتباين الآراء في التعريف الدقيق للبحث العلمي، فالدكتور جون ديكنسون – خبير اليونسكو – يعرّف البحث العلمي بأنه "استقصاء دقيق، نافذ وشامل، يهدف إلى الوصول إلى حقائق جديدة، تساعد على وضع فرضيات جديدة موضع الاختبار، أو مراجعة نتائج مسلّم بها".
كما يعرف الباحث الدكتور سيدي محمود ولد محمد – من موريتانيا – البحث العلمي بأنه "وسيلة للوصول إلى الحقيقة النسبية، واكتشاف الظواهر ودرجة الارتباط فيما بينها، وذلك في مختلف مجالات المعرفة، وأن البحث العلمي ليس مقتصرا على أسرار المادة والكون المحيط بنا، بل يشمل الأحداث اليومية لحياة الإنسان".
البحث العلمي في العالم العربي... أرقام مخيفة:
حرصت الدول المتقدمة منذ مطلع القرن الماضي على أن تكون لها سياسة وطنية للنهوض بالعلم والتقنية، وقد سنّت مجموعة كبيرة من الإجراءات التشريعية والتنفيذية بهدف تنشيط الطاقات العلمية الوطنية وتعبئتها لتحقيق خطط التنمية الإستراتيجية في بلادها، ومن أجل ذلك رصدت الأموال الطائلة لتحقيق هذا الهدف.
وحول الاستثمار في البحث العلمي والتقني يؤكد الدكتور نجيب الجامح "أنه في المقام الأول خيار اقتصادي ناجح، يعبّر عن رؤية مستقبلية اقتصادية واعية. ومن ناحية أخرى، فإن الأمن كل لا يتجزأ، فالأمن العسكري، والأمن السياسي، والأمن الغذائي، والأمن المائي، وغيرها من نواحي الأمن، ما هي إلا حلقات لسلسلة مترابطة بعضها مع بعض، وأن قوة أي سلسلة تحددها الحلقة الأضعف.
هذه الرؤية الشاملة التي تمتعت بها تلك الدول مطلع القرن العشرين افتقرت إليها دولنا العربية، التي كانت غارقة في غياهب الجهل، والأمية، والصراعات الداخلية والخارجية، والعيش على فتات الماضي، والتشبث بالخرافات والأساطير والغيبيات، والتغني بالحضارة العربية التي ازدهرت في القرون الماضية، مما أدى إلى خلق حالة متراكمة من الجهالة العلمية، وتغييب شبه كامل لمنهج التفكير العلمي الذي تبلور في دول العالم المتقدمة، وأصبح النمط السائد لسياسات تلك المجتمعات التي تسعى إلى السيطرة على بقية المجتمعات الإنسانية.
وفي عقد السبعينيات من القرن الماضي، بدأ العمل العربي المشترك للنهوض بالسياسة العلمية العربية، فعقد في بغداد عام 1974م مؤتمر الوزراء العرب المسؤولين عن البحث العلمي ورؤساء المجالس العلمية العربية، وكان هذا المؤتمر بدعوة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وقد دعا إلى ضرورة العمل العربي المشترك، وإنشاء مراكز نوعية متخصصة على مستوى الوطن العربي، وفي عام 1976م، عقد في الرباط مؤتمر آخر للوزراء العرب المسؤولين عن تطوير العلم والتقنية، أسفر عن جملة من التوصيات الموجهة إلى الحكومات العربية، وتوصيات أخرى للمنظمات العربية المعنية بدعم الثقافة والعلوم.
وعلى الرغم من تلك الجهود الرامية إلى بلورة سياسات تهدف إلى رفع شأن البحث العلمي في بلادنا العربية إلا أن تلك السياسات أدّت غالبا إلى نشوء وظائف هامشية لا تلبّي الأهداف المنشودة ولا تحققها، ولمعالجة ذلك يتم عقد مزيد من الاجتماعات، وإجراء عدد كبير من الدراسات، مما ينجم عنه تكدّس أكوام من الأوراق والوثائق والمستندات، وضياع الجهد والمال والوقت.
وفي محاولة لفهم سبب هذا القصور، وتعثّر خطوات النهوض بالبحث العلمي، يتم تبرير ذلك بالعوائق القانونية أو المالية أو السياسية أو الاجتماعية، حتى بالقول بانعكاسات الحقبة الاستعمارية القديمة، وتأثير سيطرة الشركات العابرة للقارات، وسطوة مراكز الأبحاث العالمية، متجاهلين أن البحث العلمي يرتبط بشكل وثيق بالخطط الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتعليمية والثقافية في أي مجتمع إنساني يسعى إلى النهوض والتقدم، ولا يمكن أن يتم النهوض بقطاع البحث العلمي بمعزل عن بقية قطاعات الدولة.
لقد دلّت الدراسات الميدانية أنه خلال العقد الأخير من القرن الماضي، ومطلع القرن الحادي والعشرين، تم إنشاء منظومة عربية للعلم والتكنولوجيا، فهناك أكثر من 175 جامعة في الوطن العربي، وزاد عدد الأساتذة العاملين في مجالات العلم والتكنولوجيا إلى نحو 50 ألف أستاذ، وبلغ عدد الخريجين في تلك الجامعات ما يقارب عشرة ملايين خريج، منهم نحو 700 ألف مهندس، وينفق الوطن العربي سنويا ما يزيد على سبعة بلايين دولار لدعم التعليم العالي، كما يوجد في الوطن العربي أكثر من ألف وحدة بحث وتطوير، تضم زهاء 19 ألف باحث.
كما أن الإحصائيات العالمية تشير إلى أنه خلال السنوات الخمس الماضية نشر نحو 300 مليون ورقة بحث علمي وتكنولوجي في جميع أنحاء العالم، كان نصيب دول الاتحاد الأوروبي منها 37%، والولايات المتحدة الأمريكية 34%، واليابان ودول جنوب شرق آسيا 21%، والهند 20%، وإسرائيل 10%، بينما كان نصيب 22 دولة عربية أقل من 1% من مجموع ما نشر من أوراق وأبحاث علمية وتقنية عالمية، مما يدل على أن الاستثمار العربي في هذا المجال لم يؤد إلى تحقيق نهضة عربية علمية تنعكس على زيادة دخل الفرد العربي عامة.
يقول الكاتب العلمي والصحفي اليمني عمر الحياني: "إن المتأمل لواقع البحث العلمي في وطننا العربي يجد أنه أمر شبه منعدم، أو أنه أقرب إلى صفة المنعدم، ففي الإحصائيات غير الرسمية ذات الصلة وجد أن لكل 10 آلاف مواطن عربي 3,4 علماء، بينما في اليابان لكل 10 آلاف مواطن ياباني 35,4 عالما، وهذا يعني أن العلوم والبحث العلمي شئ ترفي في واقعنا العربي، فبينما تجد العالم يتسابق نحو النانو تكنولوجيا، والهندسة الوراثية، وعلوم الفضاء، فإننا لم نستطع أن نخرج من دائرة ألف باء".
هذه الفجوة الكبيرة التي يعانيها وطننا العربي على مستوى إنتاج أبحاث علمية وتقنية عالمية، وقلة عدد العلماء والباحثين في العالم العربي، تدل على وجود خلل واضح في السياسات التعليمية والتنموية في بلادنا، وقصور مريع في مؤسسات البحث العلمي العربي، وافتقارها إلى الحسابات الدقيقة لعوائد بعض الأنشطة العلمية التي يتم تنفيذها في مؤسساتهم. تقول الكاتبة والباحثة ميساء الشامسي في دراسة خاصة حول الثقافة العلمية واستشراف المستقبل العربي: "إن التجربة العلمية في الدول المتقدمة صناعيا تنظر إلى البحث العلمي والتطوير على أنه سلسلة متصلة ومستمرة من العمليات التي تتراوح بين مراقبة الجودة والخدمات العامة على أدنى حد إلى الدراسات والأبحاث الاستكشافية بالحد الأعلى، وحين يتم العمل على كافة تلك المستويات يحدث عندها التكامل والتدفق السلس والقوي والمتفاعل من الأفكار والمساهمات بين الحدين الأعلى والأدنى من مستويات البحث والتطوير".
وتستطرد الكاتبة بقولها: "أما في الدول العربية، فإن أنشطة البحث والتطوير التي يتم إنشاؤها وتنظيمها تحت مظلة أجهزة ومؤسسات صناعية سياسات العلوم والتكنولوجيا، فإن دورها يكون محدودا للغاية، ولا يتم إيلاء الاهتمام الكافي بمخرجات ونتائج البحث والتطوير".
وللوقوف على مدى التقدم في البحث العلمي في أي بلد، اقترحت منظمة اليونسكو مجموعة من المؤشرات التي ينبغي دراستها بدقة، من أهمها:
* نسبة الإنفاق على برامج البحث العلمي والتطوير من الناتج القومي.
* براءات الاختراع.
* أعداد العاملين بالبحث العلمي.
* النشر العلمي والتنوع في المجالات البحثية.
* أعداد الدورات التدريبية والدورات التعليمية.
معوقات البحث العلمي في الوطن العربي:
يواجه البحث العلمي في الوطن العربي جملة من المعوقات والصعوبات التي تؤدي إلى أن يصبح أولوية مؤجلة وفي آخر سلم الاهتمامات، ومن أهم تلك المعوقات:
1- انخفاض معدل الإنفاق على البحث العلمي في الوطن العربي:
إن النهوض بهذا القطاع المهم والحيوي في أي مجتمع يتطلب إنفاقا ماليا كبيرا على المنشآت، والمختبرات، والتجهيزات، والمعدات، والدورات، وعلى العاملين في هذا المجال.
فنظرة سريعة إلى واقع ما تنفقه دولنا العربية على البحث العلمي يكشف لنا مدى البون الشاسع في هذا المجال، فطبقا لدليل التنمية البشرية في برنامج الأمم المتحدة لعام 2002م، وخلال الحقبة الممتدة بين عامي 1996م و 2002م، تم تصنيف الدول حسب إنفاقها على البحث العلمي بالنسبة إلى الناتج القومي كما يلي:
دول تنفق أكثر من 3% من ناتجها القومي على البحث والتطوير، وتشمل هذه المجموعة: السويد واليابان وفنلندا وإسرائيل.
دول تنفق أكثر من 2,5% وأقل من 3% من ناتجها القومي على البحث والتطوير: وتشمل هذه المجموعة: أسكتلندا، والولايات المتحدة الأمريكية، وسويسرا، وألمانية الاتحادية، وكوريا الجنوبية.
دول تنفق أكثر من 2% وأقل من 2,5% من ناتجها القومي على البحث والتطوير: وتشمل هذه المجموعة: بلجيكا، وفرنسا، والدنمارك، وسنغافورة.
دول تنفق أكثر من 1,5% وأقل من 2% من ناتجها القومي على البحث والتطوير: وتشمل هذه المجموعة: أستراليا، وكندا، وهولندا، والمملكة المتحدة، والنمسا، وسلوفينيا.
دول تنفق أكثر من 1% وأقل من 1,5% من ناتجها القومي على البحث والتطوير: وتشمل هذه المجموعة: أيرلندا، ونيوزيلندا، وإسبانيا، وإيطاليا، وروسيا الاتحادية، والبرازيل، والصين.
دول تنفق أكثر من 0,5% وأقل من 1% من ناتجها القومي على البحث والتطوير: وتشمل هذه المجموعة: اليونان، والبرتغال، وبولندا، وأوكرانيا، وتركيا.
دول تنفق أكثر من 0,3% وأقل من 0,5% من ناتجها القومي على البحث والتطوير: وتشمل هذه المجموعة: الأرجنتين، وتشيلي، والمكسيك، وبلغاريا، وماليزيا، وبنما، وتونس.
دول تنفق أقل من 0,3% من ناتجها القومي على البحث والتطوير: وتشمل هذه المجموعة: جميع الدول العربية وأمريكا الجنوبية.
وتشير إحصائيات منظمة الخليج للاستشارات الصناعية إلى أن ميزانية البحث والتطوير للدول العربية في عام 1995م لم تزد على 570 مليون دولار، بينما بلغ إجمالي الإنفاق العالمي نحو 500 مليار دولار في ذلك العام.
ووفقا للبيانات الصادرة عن البنك الدولي حول مؤشرات التنمية في عام 2003م، فإن مجمل ما تنفقه الدول العربية على دعم البحث العلمي لا يكاد يذكر، فقد بلغت حصة الإنفاق على البحث والتطوير من الناتج القومي الإجمالي في كل من الكويت والأردن ومصر وسورية والإمارات العربية المتحدة على الترتيب النحو الآتي: 0,3% ، 0,26 % ، 0,2% ، 0,18% ، 0,45% ، بينما أنفقت السويد 3,02% من ناتجها القومي، واليابان 2,84% ، وسويسرا 2,68% ، وكوريا الجنوبية 2,47% ، والولايات المتحدة الأمريكية 2,8% ، وفرنسا 2,34%.
ويرى بعض المحلّلين أن تدنّي الإنفاق العربي على البحث العلمي بوجه خاص، وفي الدول النامية بوجه عام، عائد إلى أن هذا النشاط غير منتج بشكل مباشر، وغير مربح من الناحية الاقتصادية على المدى الزمني القصير، إذ يمكن استيراد التقنية الجاهزة من الدول المتقدمة من دون عناء يذكر. ويغفل أصحاب هذا الرأي التجارب الرائدة وقصص النجاح التي تحققت في بعض الدول من جرّاء إيلائها البحث والتطوير عناية خاصة، فكوريا الجنوبية – مثلا – استطاعت منذ عام 2000م زيادة قدرتها الاقتصادية بشكل كبير بعد أن أنفقت بسخاء على الأبحاث العلمية والتقنية، إذ احتلت المركز الخامس عالميا في مجال الاختراعات، وغزت منتجاتها التكنولوجية أسواق العالم، وهذا عائد إلى أن مجمل ما كانت تنفقه على البحث العلمي والتطوير قبل عام 2000م بلغ 0,2% من الناتج القومي، ليصبح هذا الإنفاق في مطلع هذا القرن 5%، وليستقر حاليا عند نحو 2,6% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.
2- تقاعس القطاع الخاص في الوطن العربي عن دعم البحث العلمي:
يعد القطاع الخاص في دول العالم المتقدمة الرافد الرئيس لدعم البحث العلمي، وقد أدرك القائمون على هذا القطاع مدة الاستفادة المتحققة نتيجة دعم الباحثين والعلماء، وتوفير بيئة مناسبة لهم، فنجد إسهامات المؤسسات الخاصة في اليابان قد بلغت 81,7% من مجمل ما تم إنفاقه على البحث العلمي في البلاد، وألمانيا الغربية 63,3% ، وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية 50,2% لكل منهما، بينما نجد أن القطاع الخاص في بلادنا غير معني بوجه عام بقضية النهوض بالبحث والتطوير، وأن مهمة النهوض بهذا القطاع الحيوي المهم ملقاة على عاتق الدولة.
لقد أدركت الدول الصناعية أهمية إشراك القطاع الخاص في دعم البحث والتطوير في بلادها، فقدمت لهم التسهيلات اللازمة، وخفضت الضرائب والرسوم على كل شركة أو مؤسسة خاصة تدعم الأبحاث وتسعى إلى الابتكار والتطوير في تقنية جديدة أو صناعة محددة، بينما نجد أن معظم الشركات والمؤسسات في بلادنا مستوردة للتقنية، غير مهتمة بتحسين عملها وتطويره لكي تصبح منتجة ورائدة في مجال عملها مستقبلا.
يقول الدكتور طارق قابيل – المحاضر في كلية العلوم بجامعة القاهرة، والمحرر في مجلة العلم المصرية، ومؤسس موقع ويكيبيديا العربي: "إن القطاع الحكومي يعد المموّل الرئيس لنظم البحث العلمي في الدول العربية بإسهام يبلغ حوالي 80% من مجموع التمويل المخصص للبحوث والتطوير، مقارنة بنسبة 3% للقطاع الخاص، و17% من مصادر مختلفة، وذلك على عكس الدول المتقدمة، حيث يحظى تمويل البحث العلمي من القطاع الخاص بنسبة كبيرة".
لقد اضطلعت بعض الجامعات العربية بدور مهم في مجال البحث العلمي، وعلى الرغم من أن تجهيزاتها العلمية مخصّصة أساسا للتدريس بيد أن بعض الدراسات والأبحاث يتم إجراؤها في تلك الجامعات لمصلحة بعض مؤسسات المجتمع، أو لكي تنشر في بعض المجلات العلمية، أو لكي يحصل أعضاء هيئة التدريس على بعض الترقيات في مجال عملهم.
وبسبب محدودية ميزانية تلك الجامعات المخصصة للبحث العلمي، فقد بادرت بعض الدول العربية – كالمملكة العربية السعودية – إلى الدعم المباشر لتلك الجامعات لتشجيعها على إجراء دراسات وأبحاث في ميادين متعددة، كما فرضت دولة الكويت نسبة معينة من أرباح شركاتها لدعم مؤسسة الكويت للأبحاث العلمية.
وقد أسفر هذا الدعم المباشر عن تسجيل عشرات براءات الاختراعات في المملكة العربية السعودية، التي تحققت في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، إذ حصل المخترعون السعوديون على 13 جائزة عالمية في معرض جنيف الدولي للمخترعين السابع والثلاثين.
3- تسرّب الكفاءات العلمية من الدول العربية:
تواجه الدول العربية مشكلة نقص أعداد العاملين في المجالات العلمية، وهجرتهم إلى البلاد الصناعية، وتشير إحصائيات الأمم المتحدة للتنمية البشرية الصادرة في عام 2003م إلى أن نصيب الدول العربية من الكفاءات العلمية المتخصصة بلغ 7% فقط، بينما حظيت كوريا الجنوبية بنسبة 20%، وتشير الدراسات نفسها إلى أن عدد العلماء والمهندسين العاملين في مجال البحث العلمي في الدول العربية بلغ نحو 3,8 لكل مليون نسمة، بينما يبلغ العدد في الدول المتقدمة نحو 3600 لكل مليون نسمة.
يقول الكاتب فاروق أو طعيمة المتخصّص في الفكر الإسلامي والبيئة والتربية: "إن أجيالا من أبناء العالم العربي قد تربّت وترعرعت منذ خمسينيات القرن المنصرم على مسألة هجرة العقول والكفاءات العربية إلى أوروبا وأمريكا، وخصوصا أصحاب الكفاءات العلمية".
ويستطرد أو طعيمة بقوله: "إننا عندما نتحدث عن هجرة الأدمغة العربية فإننا في الغالب نتحدث عن فئة متميزة للغاية من أبناء المجتمعات التي تعاني من قلة أو انعدام التطور الصناعي والتكنولوجي والاقتصادي، مما يفقد تلك المجتمعات النامية قدرتها على بناء جهاز علمي وصناعي وتكنولوجي قادر على بناء اقتصاد عصري متقدم".
من جهة أخرى، فإن الوطن العربي يتكبّد خسائر فادحة من جرّاء تسرّب الكفاءات العلمية وهجرتها إلى الدول الغربية، فنحو 70 ألفا من خريجي الجامعات العربية يهاجرون سنويا إلى الدول الغربية بحثا عن فرصة عمل، وطبقا لدراسة أعدتها جامعة الدول العربية فإن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلادهم, وأن 34% من الأطباء العرب المتميزين يعملون في بريطانيا، وأن نحو 75% من الكفاءات العلمية العربية المتميزة موجودة حاليا في أمريكا وكندا وبريطانيا.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور طارق قابيل: "إنه في الوقت الذي هاجرت فيه – أو أجبرت على الهجرة – مئات الآلاف من الكفاءات العربية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا الغربية، تدفع البلدان العربية أموالا طائلة للخبرات الدولية، الأمر الذي يحمل المشروعات الصناعية العربية تكاليف إضافية للخدمات الاستشارية".
4- ظروف عمل العلماء والباحثين ا لعرب:
تعزى هجرة العقول العربية الكفؤة إلى الظروف غير الملائمة لعيشهم في بلادهم، حيث لا يتم توفير الحد الأدنى من الرعاية والاهتمام لهم، بدءا من قلة الرواتب التي لا تسد حاجة الباحث وعائلته، إلى ضعف مستلزمات العمل والتجهيزات والمختبرات والمراجع والمجلات والمكتبات وغيرها من المستلزمات الفنية والتقنية التي لا بد من توافرها لإجراء الدراسات العلمية بشكل مناسب.
وقد أولت الدول المتقدمة هؤلاء العلماء والباحثين جل اهتمامها، ووفرت لهم الدعم المادي والمعنوي غير المشروط، فلا يمكن أن تبخل عليهم في تنفيذ الأنشطة والأبحاث العلمية بعيدا عن الروتين والبيروقراطية السائدة في عالمنا العربي، إذ تبين أن الإجراءات الإدارية والمالية المتبعة في بلادنا للإنفاق على الأبحاث والدراسات تستلزم وقتا طويلا ومراسلات مثيرة ومعقدة بين الجهات ذات الصلة.
5- مكانة العلماء والباحثين في المجتمع العربي:
تعد النظرة الإيجابية التي يوليها المجتمع للعلماء والباحثين من الأمور البالغة الأهمية، إذ تدفعهم إلى مزيد من التضحية والعطاء العلمي، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا في المجتمعات التي تصبو نحو التقدم والتطور، وتدرك أهمية العلم في حياتها اليومية.
وقد أولت قيمنا الإسلامية والعربية هؤلاء المفكرين عناية خاصة، إلا أن تضافر مجموعة كبيرة من العوامل الاقتصادية والسياسية أدى إلى عدم تقدير الجهود المضنية لهؤلاء الباحثين الهادفة إلى النهوض بالعلم في بلادهم، مما انعكس عليهم سلبا، ودفعهم إلى التفكير في الهجرة نحو مجتمعات أخرى تقدم لهم كل عناية واهتمام.
من جهة أخرى، فإن البحث العلمي في العالم العربي يواجه معوقات وصعوبات أخرى، كعدم تفعيل النتائج التي تسفر عنها الدراسات وتوظيفها لخدمة المجتمع أو الاقتصاد، وعدم وجود رؤية واضحة لماهية البحث المطلوب تنفيذه، وغياب المفهوم الشامل لخطط التنمية المستقبلية في المجتمع، وقلة التواصل بين مراكز المعلومات والأبحاث في عالمنا العربي، وغياب تبادل الخبرات بين الجامعات والمعاهد العلمية المتخصصة، وغيرها من المعوقات التي تقف حجر عثرة أمام تطور حركة البحث العلمي في عالمنا العربي.
وعلى الرغم من تلك المعوقات والمصاعب التي تعصف بالعلماء والباحثين العرب في بلادهم، تبقى قضية البحث العلمي من القضايا المصيرية التي لا بد من النهوض بها، وهي ترتبط بشكل جوهري بالرؤية السياسية لأي مجتمع، فلا يمكن أن يكون هناك تقدم في هذا المضمار من دون تحديد العلاقة المباشرة بين أهداف البحث العلمي وعلاقته بالأمن القومي وقوة الدولة الاقتصادية والاستراتيجية وقدراتها التنافسية.
ومن جهة أخرى، فقد بيّنت التجربة العملية وجود تعاون وثيق بين الدول الصناعية في مجال العلوم والتقنية، إذ ترفد كل مؤسسة المؤسسات الأخرى بالنتائج التي توصلت إليها، بغية تحقيق إنجازات ملموسة على أرض الواقع.
وبالمثل، يمكن القول: إن وطننا العربي يضم كفاءات عربية متميزة إن حسن توظيفها فلا بد أن تنجز كثيرا في المجالات كافة تحت مظلة التعاون العربي المشترك، وبالتواصل مع مراكز الأبحاث والدراسات العالمية لتبادل الخبرات والكفاءات والمعلومات، وهذا سيؤدي إلى النهوض بالبحث العلمي، الذي ستنعكس نتائجه الإيجابية على القطاعات كافة في البلاد العربية.
وفي هذا الصدد، ينوّه الكاتب عمر الحياني بأن "هناك اتجاهات إيجابية تتبناها بعض الدول العربية لدعم حركة البحث والتطوير في عالمنا العربية، فالمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة اتجهت نحو إنشاء جامعات علمية وبحثية متخصصة، وهذا بارقة أمل في عالمنا العربي يعيد لعقول هذه الأمة مكانتها وأهميتها في التقدم والرقي الحضاري، فأمة لا تقدم اختراعات وابتكارات وحلولا علمية لمشكلاتها تظل أسيرة الارتجال والتخبّط والتخلّف".
إن الدول العربية برمتها مطالبة حاليا بوضع استراتيجية شاملة للبحث العلمي والتطوير، وإنشاء وزارات أو مؤسسات مهمتها متابعة عمليات البحث العلمي، ودعمها بالأموال بشفافية ونزاهة، وتقديم التسهيلات الإدارية والقانونية لها، وينبغي أيضا زيادة الاهتمام بالباحثين العرب، وتحسين وضعهم المادي والمعيشي، والتواصل مع الباحثين العرب في الدول المتقدمة، للاستفادة من خبراتهم العلمية المتراكمة، وتشجيعهم على إجراء بحوثهم في بلادهم، للاستفادة منها لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية التي نطمح إليها.
الأستاذ أمجد قاسم
نقلا عن مجلة الفيصل العلمية
المجلد السابع، العدد الرابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق