السياسية' في ملتقى نوابغ وعباقرة العالم الأحد 11 يوليو 2010
(السياسية): عبد الرحمن مطهر أبو طالب
نظمت مدينة لينداو الألمانية في الفترة 27 يونيو - 3 يوليو 2010، فعاليات الدورة الستين لاجتماع الحائزين على جائزة نوبل، بمشاركة 59 من الحائزين على جائزة نوبل في العلوم، حوالي 675 من العلماء الصغار والباحثين الشباب، من أكثر من سبعين دولة، بينها: اليمن، مصر، السودان، عمان، الأردن، المغرب، والسعودية. حدث علمي كبير جمع نوابغ العلم في وقتنا الحاضر مع عباقرة المستقبل، نقل التجربة المعرفية بين جيلين من العلماء، وتحفيز الشباب للإبداع العلمي، كان الهدف الأساسي لهذا الملتقى الهام. صحيفة "السياسية"، كانت حاضرة وغطت الحدث:
قراءة في تاريخ الملتقى
في الجنوب الشرقي لألمانيا وعلى ضفاف بحيرة كونستانت بين الحدود الألمانية النمساوية السويسرية تقع مدينة لينداو بعبقها التاريخي العميق وأصالتها المعمارية الفريدة وسكانها الذي يقدرون بنحو 25 ألف نسمة. يقطنها حوالي 500 مسلم يجمعهم مسجد وحيد. المدينة ورغم أنها تعتبر من أجمل مدن أوربا وأكثرها سحرا وجاذبيه إلا أن سبب شهرتها وذيوع صيتها عالميا مرتبط باستضافتها السنوية لملتقى لينداو للحائزين على جوائز نوبل في العلوم منذ ستين عاما عندما نشأت فكرة الملتقى لدى عالمين فيزيائيين من لينداو هما فرانز كارل وجوستاف براد وبرعاية الكونت لينارت بيرنادوت تم وبصعوبة جمع سبعة علماء "نوبل" من أوربا عام 1951 ليثبت الألمان آنذاك قدرتهم على تجاوز آثار الحرب العالمية الثانية في سنوات قليلة. ومنذ ذلك التاريخ صارت لينداو تستضيف كل عام وعلى مدى أسبوع في جزيرة صغيرة لا تتجاوز مساحتها نصف كيلومتر مربع نخبة من أكثر العلماء نبوغا وذكاء على وجه الأرض ورغم كل ما يثار من جدل وشبهات حول آلية توزيع جوائز نوبل، إلا أن هؤلاء العلماء غيروا مسار التاريخ وأسهموا في رقي البشرية وصرنا نتلمس ابتكاراتهم في كل حياتنا.
الدورة ألـ 60.. تنظيم احترافي
كان الملتقى هذا العام فريدا جدا؛ لأنه الأكبر في تاريخ الملتقى من حيث عدد المشاركين الذين تجاوز عددهم الألف شخصية من العلماء والباحثين الشباب والضيوف والأكاديميين والإعلاميين، كما ناقش الملتقى هذا العام مجالات العلوم المتعددة ولم يقتصر على فرع محدد كما هو المعتاد في كل عام. وعلى الرغم من أن التنظيم والتنسيق لهذا الحدث كان احترافيا جدا، إلا انه كان أيضا بسيطا يخلو من مظاهر الترف والفخامة المفرطة التي اعتدناها في دولنا العربية عند تنظيم فعاليات ابسط بكثير من هذا الملتقى... مخيمات للمؤتمر نصبت في شوارع الجزيرة على ضفاف البحيرة وفنادق بسيطة وأنيقة للضيوف وعلماء كبار يقفون في طابور الطعام مع الباحثين الشباب ويتشاركون معهم الأكل والحديث والمزاح وكل شي، وكأني بهؤلاء العلماء قد اتفقوا مع المنظمين على إزالة هالة العظمة حولهم أمام الباحثين الشباب ليعلموهم أن العلم والتواضع قرينان لا يفترقان.
لقطات من لقاء العباقرة
تميز الملتقى بمواضيع علمية هامة في مجالات: الفيزياء، الفضاء، الكيمياء، الأحياء وعلم الجينات، الطب والبيئة. كما تميز بمحاضرات علمية من قبل علماء نوبل. لم تقتصر محاضراتهم على ما اكتشفوه في الماضي فقط، بل وعرضوا لبعض الأبحاث الحديثة التي مازالت قيد الدراسة في مجالات الهندسة الوراثية، علم الجينات والخلايا الصناعية وغيرها.
فقد عرض عالم الفضاء الأميركي جون ماثر، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2006 أعماله في مكتشف الخلفية الإشعاعيـة، "قصة الكون من البداية وحتى النهاية القصوى". أما العالم الفرنسي لوك مونتانييه، الحائز على جائزة نوبل في الطب عام 2008، لمشاركته في اكتشاف فيروس نقص المناعة المكتسب HIV المسبب للأيدز، فقد محاضرته عن الجينات والحمض النووي بين الفيزياء والكيمياء. وتحدث العالم الصيني الأصل، روجر تسيان، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2006، عن البروتينات الفلورية الخضراء المشعة ودورها في العمليات الجراحية. بالإضافة إلى محاضرات من قبل الكثير من علماء نوبل الآخرين الذين لا يتسع المجال هنا لحصرهم وسرد انجازاتهم وأبحاثهم.
ما لفت نظري في تلك المحاضرات العلمية، هو أسلوب المحاضرين الذي تميزوا بروح الفكاهة وإلقاء الدعابات والتعليقات الطريفة على الجمهور المشارك، وكأنهم أرادوا إيصال رسالة مفادها، يمكن للعلم أن يكون ممتعا وهو ليس معقدا كما هي الصورة النمطية في أذهان الناس.
كذلك، أخذت حلقات النقاش مع الباحثين بعدا إنسانيا واجتماعيا. فلم تقتصر على الجانب العلمي الصرف، ولم يبخل العلماء بنصح الشباب وإرشادهم حتى في حياتهم الخاصة. فقد قال العالم أوليفر سميتز، الحائز على جائزة نوبل في الطب عام 2007، موجها حديثة إلى العلماء الشباب: "لا أعتقد بأنه ينبغي عليكم العمل بمشقة، لكن اجعلوه ممتعا فقط". مضيفا: "لا تستطيع أن تصبح عالما دون وجود علاقات اجتماعية مع الآخرين، كما أن الأسرة هي الأهم".
من جانبه، قال العالم الفلكي جون مائر: "منذ كنت طفلا حلمت ببناء تلسكوب وما زلت أسعى إلى تحقيق حلمي" في إشارة إلى ضرورة الطموح والسعي لتحقيق الأحلام. وأكد العالم ثيودور هانش، الحائز على نوبل في الفيزياء عام 2005، إن مهمة أساتذة الجامعات ليس تعليم القديم فقط، بل يجب عليهم أيضا المساهمة والعمل على اكتشاف الجديد.
أما العالمة الفرنسية فرانسواز باري، الحائزة على نوبل في الطب عام 2008، فقد أضحكت المشاركين عندما تحدثت عن أهمية أن يكون شريكك متفهما لطبيعة عملك، وقالت: "في يوم عرسي كنت في المعمل، فتلقيت اتصالا من الرجل الذي يفترض أن يكون زوجي فسألني بلطف: هل تعتقدين بأنه يمكنك أن تأتي اليوم؟ فقلت له: يا إلهي، لقد نسيت. بالتأكيد سأكون هناك خلال نصف ساعة".
ومما أثار استغرابي أيضا، أثناء النقاشات أن كانت إجابات العلماء على بعض أسئلة الباحثين مقتضبة ولم تتجاوز جملة بسيطة: "لا أعلم"!! عالم حقيقي وكبير كهذا لم يجد حرجا في أن يقول بكل بساطة: "لا أعلم"، ولم يلجأ إلى ادعاء المعرفة كما يفعل غيرهم في عالمنا الثالث.
الملتقى بلغة الأرقام
كانت المشاركة هذه المرة، قياسية نوعا. فقد بلغ عدد العلماء الحائزين على جوائز نوبل المشاركين في الملتقى 59 عالما، و210 ضيوف شرف وأكاديميين و150 إعلاميا لتغطية الحدث، بينهم ثلاثة عرب من اليمن، مصر، والجزائر.
أما الباحثين الشباب، فقد بلغ عددهم 675 فتى يمثلون 58 بالمائة مقابل 42 للفتيات، قدموا من أكثر من 70 دولة، تم اختيارهم من بين أكثر من 20 ألف باحث وطالب شاب تنافسوا على حضور الملتقى، من خلال سلسلة من الإجراءات والشروط المعقدة لاختيار المشاركين الشباب وفقا لثلاث فئات: طلاب علماء ما قبل التخرج، طلاب الماجستير والدكتوراه، باحثين ما بعد الدكتوراه.
وبحسب التخصصات المعروفة في مجال العلوم، فقد بلغ عدد المشاركين المتخصصين في علوم الأحياء 149، و198 في علوم الفيزياء، و196 في علوم الكيمياء، و109 في علوم الطب.
بالنسبة لقوام وفود الباحثين وتوزيعهم على دول العالم، فقد احتلت ألمانيا الصدارة بـ170 باحثا، تليها أميركا بـ93، ثم الصين بـ36، فالهند 32. وجاءت اليابان في المرتبة الخامسة بـ23 باحثا، بينما توزع باقي الباحثين المشاركين على دول العالم الأخرى، وكان نصيب الدول العربية مجتمعة 12 باحثا فقط: أربعة من مصر، اثنان من الأردن ومثلهما من السعودية، ومشارك واحد من اليمن، السودان، المغرب، وعمان.
تواضع المشاركة العربية
كانت المشاركة العربية هذا العام متواضعة جدا، مقارنة بالعام الماضي رغم اتساع حجم ملتقى هذا العام. فقد عدد الباحثين العرب العام الماضي 18، انخفض هذا العام إلى 12 باحثا فقط، قدم أربعة منهم من جامعات أوربية. أي أن المؤسسات التعليمية والعلمية العربية لم ترسل سوى ثمانية باحثين.
فضلا عن ذلك، كان مستوى مشاركتهم في حلقات النقاش باهتا على عكس بعض الوفود الأخرى مثل الهنود أو الصينيين. وفي هذا الصدد، قال الأستاذ المشارك في جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا الدكتور سعود بن عنوز -وهو باحث يمني في الفيزياء نشرت له عدد من الأبحاث العلمية الهامة في صحف علمية عالمية والذي شارك في الملتقى- إن حجم المشاركة الهزيل للعرب يعكس بشكل واضح عدم الاهتمام بالعلوم والبحث العلمي في الدول العربية. أما رشا حسنين، وهي باحثة مصرية في الفيزياء مشاركة في الملتقى، فقد قالت: "إن هذا الملتقى العلمي يحظى بشهرة كبيرة وصدى واسع في الأوساط الأكاديمية العلمية في أوربا، ويسعى الجميع إلى المشاركة فيه على عكس الباحثين في الدول العربية، والذين غالبا لا يعرفون الكثير عن هذا الملتقى. ولهذا تكون المشاركة بسيطة، خاصة وان عملية القبول تمر بمراحل صعبة.
كذلك كان رأي الباحثة السعودية، تهاني البلادي، من جامعة الملك سعود، والتي قالت إنها لم تعلم بالملتقى إلا من خلال الدكتورة المشرفة عليها في الجامعة التي نصحتها وساعدتها على التقدم بطلب المنافسة على حضور الملتقى. ورغم فوزها وقبولها، إلا أن الجامعة التي تدرس فيها لم تدعمها أو تتفاعل معها بالشكل المطلوب.
الدكتور أسعد خالد من السودان، وهو باحث في علوم الكيمياء، فقد شدد من جانبه، على ضرورة أن يكون الباحثون والطلاب العرب في تواصل مباشر ومستمر مع المنظمات والمؤسسات الأكاديمية والبحثية العالمية، وعدم الاتكال على الجامعات الوطنية التي تعاني عجزا بحثيا في المجال العلمي في الوطن العربي كله.
خلال المؤتمر الصحفي، الذي عقدته الكونتيسة بيرنادوت رئيسة الملتقى ومعها مسؤولي المؤسسة، سألت حول سياسة المؤسسة تجاه الباحثين العرب، فقال السيد أجاد ماديش الرئيس التنفيذي لشبكة "ريسيرش جيت"، وهو أحد شركاء المؤسسة، إنه يتم توجيه رسائل ومخاطبة الكثير من المؤسسات التعليمية ومراكز البحث العربية لترشيح باحثين شباب لحضور الملتقى، لكنا لا نرى التفاعل والاستجابة المطلوبين أو أن الأسماء المرشحة غالبا ما تكون تفتقر إلى شروط القبول المطلوبة في المشاركين.
وعن مدى الاستفادة التي لمسها الباحثين العرب من هذه التجربة يجيب الدكتور الأردني مراد الضامن الباحث في الكيمياء والذي يعتبر بالمناسبة من أصغر المشاركين سنا الذي يحمل سجله شهادة الكتوراة ومجموعة من الأبحاث العلمية الذائعة الصيت يقول: "أن تتواجد في نفس المكان مع علماء عباقرة كنت تقرا عنهم واليوم تواجههم وجها لوجه تصافحهم وتسألهم وتناقشهم فهذا يكفي". وكذلك يقول مواطنه عمر محاسنة الباحث في علوم الكيمياء: "كنت أشعر بالإحباط من تخصصي ولكني الآن سأعود إلى معملي مفعم بالتفاؤل والعزيمة". ويضيف الدكتور أسعد خالد: "لا يمكن أن نقول إن هناك استفادة مباشرة من الملتقى فهي ليست دورة تدريبية ولكن الفائدة تكمن في التحفيز المعنوي للباحثين وبناء شبكة تعارف وصداقة بين الباحثين الشباب من مختلف أنحاء العالم".
وفي خضم حالة الإحباط التي أفرزها المستوى المتدني للمشاركة العربية، بدا بصيص من أمل، جاء مع باحثين شباب من أصول عربية قدموا من أوربا والولايات المتحدة، لكنه أمل لا يقوم على أساس إذا لم يكن المشاركون قد جاءوا من مؤسسات البحث العلمي، التي تعج بها بلداننا العربية على كثرتها وعلى تاريخها العريق.
مراسم النهاية سياحية
مثلما كان افتتاح الملتقى بسيطا ومؤثرا، كان الختام ساحرا والوداع حارا ودافئ في رحلة بحرية إلى جزيرة الزهور "ميناو" التي تبعد مسافة ساعتين بالباخرة من لينداو بالقرب من الحدود السويسرية، هذه الجزيرة التي تشكل لوحة طبيعية خلابة تتوسط بحيرة كونستانت وبمناخها المعتدل تمثل متحف نباتي طبيعي ومفتوح يضم أجمل الورود والزهور النادرة يصل عددها إلى أكثر من ثلاثة آلاف نوع من بينها زهور التوليب، الياقوت الأصفر، الداليا ونباتات السحلب وغيرها. وفي الهواء الطلق، انعقدت حلقة نقاش موسعة، حول الطاقة البديلة والنظيفة.
كما تضمن برنامج اليوم الختامي معرضا خاصا عن الطاقة الصديقة للبيئة وتطبيقاتها، لتختتم في إثر ذلك فعاليات الملتقى بكلمة مقتضبة ووداع حار ودافئ بين جموع المشاركين من زهرة الجزيرة ورئيسة مجلس الملتقى الحالي الكونتيسة بتينا بيرنادوت التي تجعلك بوقارها وتواضعها وثقافتها العالية، تشعر انك أمام أميرة خرجت من جوف التاريخ القديم وقصصه الأسطورية، لا حيلة لك سوى الانحناء احتراما وتقديرا لذاك الوقار ولكل زملائها في مجلس إدارة الملتقى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق