دعوة إلى الإعلام العلمي، والصحافة المتخصصة
المقالة العلمية، فن، ثقافة وإمتاع
أيمن عبد الحليم نصار*
يعتبر العلم والأعلام إحدى ركائز التنمية التي لا غنى عنها اليوم؛ فقد رفعت إحدى الندوات العلمية التي نظمها معهد ألصحافه الأسيوية الهندية عام 1975 بالتعاون مع مركز الأبحاث للتنمية الدولية ألكنديه شعار ( لا تنميه ولا علوم بلا إعلام )؛ ومن هذا المنطلق كانت الحاجة لدعم المجهود العلمي للمؤسسات العلمية بالعمل الإعلامي للإفصاح عن مجوداتها وللتعريف بها، فكان أنشاء المركز الإعلامي لجامعة العرب الطبية، صرح جديد، استجاب لمتطلبات العصر، يدعو الأكاديميين والباحثين وأساتذة الجامعات للالتفات لأحد أدوات التنوير الحديثة، والتي تهدف إلى بناء وخدمة المجتمع عبر تقديم المعلومات الصحيحة من منبعها، فالإعلام العلمي المتخصص والذي يعتبر أحد اهتماماتها يحتاج منا إلى مد جسور التعاون بالمتخصصين في المجالات المختلفة، حتى نتمكن من المواكبة والمتابعة المستمرة لما يستجد من تطورات علمية على الساحات العلمية المختلفة؛ فليمسك الباحث الأكاديمي قلمه الآن ليخط مقالته العلمية، ويشارك معنا في تنمية مجتمعاتنا.
قال العرب قديماً؛ (( لكل مقام مقال )) ، وعدّوا بلاغة الكلام في أن يناسب المقال الحال، ومقال الحال اليوم يقول؛ بما أننا نعيش عصر العلم، فأن المعلومة والمعلومات ولغة الحقائق والأرقام هي لغة الخطاب المناسبة للوصول للجمهور وإقناعه والتأثير عليه، فلم يعد اليوم القارئ يقتنع بأي معلومة يقرأها أو يسمعها فكثرة المعلومات وتضاربها وكثرة الجدل والآراء حولها، والتنافس المحموم بين وسائل الإعلام، جعلته يبحث جاداً عن المعلومة الصحيحة، والمعلومة الصحيحة سيجدها عند المتخصصين فقط، ونحن في مجلتنا نطرح للمعلومة الطبية المتخصصة.
إن المتخصص عندنا هو شخص أكاديمي أعتاد كتابة البحث العلمي بأسلوبه العلمي الجاف، فهو يصيغ الحقائق العلمية لمجرد أبرازها والتعبير عنها دون العناية بالناحية الفنية والجمالية؛ وهذا الأسلوب بالطبع لا يصل بسهولة لعامة القراء، ومن هنا نشأت الحاجة للمقالة العلمية الصحفية والتي تعمل على تبسيط المعلومة وإيصالها بأسلوب علمي متأدب للقارئ، حيث يضفي هنا الكاتب على كتاباته نوع من الأدب أو الذوق الأدبي بحد معقول، هذا الأسلوب نحتاجه بشدة كي نستطيع دمج المواطن العادي حقيقةً من خلال وسائل الإعلام فيما يجري داخل مراكز الأبحاث وأروقة المؤتمرات، إضافة إلى ما يستجد على الساحة العلمية من اكتشافات وأخبار، وبهذا نعمل على أن نصدر منهجنا العلمي والفكري للمواطن العادي، فعلينا أن نخرج بالعلم خارج قاعات الدراسة، إلى المجتمع، فالعلم والإعلام يوظفان أساساً لخدمة المجتمعات، وعلينا أن نعمل على إشاعة الفكر العلمي، والمنهج العلمي كأسلوب حياة وعمل، يستشعر به المواطن العادي وينهل منه ليطور من أسلوب تفكيره ويغير من نمط حياته.
يتبين جلياً لنا هنا أن الإعلام والصحافة المتخصصة، أصبحت اليوم ضرورة مادية نتيجة للمتطلبات التعليمية والاجتماعية والثقافية، وهنا نجد أن الكاتب المتخصص في الأوساط العلمية والذي يندر وجوده سيدفع بالمشروع الثقافي للأمام، كما أن الجمع بين العلم والإعلام أصبح مطلب متقدم يواكب روح العصر؛ هذه الروح تجاوزت حد التخصص أيضاً إلى دمج التخصصات مع بعضها البعض في الكثير من المجالات، وهذا لتلبية احتياجات العمل والمجتمع مما يجعل الإنسان في بحث دائم عن العلم والمعرفة الأفقية خصوصاً، ليصبح هناك تنوع في الحلول والمعالجات تمكن الفرد على تجاوز المهام الصعبة.
يعرف الإعلاميون الإعلام المتخصص على أنه “نمط إعلامي معلوماتي يتم عبر وسائل الإعلام المختلفة، ويعطي جل اهتمامه لمجال معين من مجالات المعرفة، ويتوجه إلى جمهور عام أو خاص، مستخدماً مختلف فنون الإعلام من كلمات وصور ورسوم وألوان وموسيقى ومؤثرات فنية أخرى، ويقوم معتمداً على المعلومات والحقائق والأفكار المتخصصة التي يتم عرضها بطريقة موضوعية، وبهذا يستخدم الإعلام المتخصص مثله مثل الإعلام العام مختلف عناصر التشويق وأساليب العرض والتقديم من سرد ودراما وندوة وحوار وتمثيلية ومسلسل، ومقالة، وتحقيق وتقرير،وأفلام وثائقية، وما إلى ذلك” هذا النمط من التفكير فتح باب الإعلام على مصراعيه للتعامل مع كافة التخصصات لتتسع قاعدته، وتتنوع أشكاله، فيقدم من المواد ما يشبع رغبة كل فرد في أي المجالات شاء؛ فتفِد إلى الإعلام في طرح قضاياه، علوم ومعارف كثيرة ومتعددة، فاستفاد الإعلام من العلوم الأخرى فظهر الإعلام الاقتصادي ، والإعلام السياسي ، والإعلام الديني، والإعلام الطبي والإعلام العلمي، وغيرها من التخصصات، وصار الإعلاميون يجمعون في دراساتهم بين فنون الإعلام المختلفة وتخصصات أخرى، وصار المتخصصون في مجالات علمية مختلفة يفِدون إلى ساحات الإعلام دارسين لفنونه وحرفياته ليجمعوا بين فنون وعلوم الإعلام وبين تخصصاتهم الأخرى، فظهر تبعاً لذلك الصحفي السياسي، والصحفي الرياضي ، والإعلامي الاقتصادي، ورجل الإعلام الديني وغيرهم كُثر.
تُعتبر الصحافة العلمية والمقالة شكل من أشكال الإعلام العلمي ، وهنا يعرف الإعلاميون المقالة بشكلها العام على أنها ” قطعة من النثر معتدلة الطول، تعالج موضوعاً ما معالجة سريعة من وجهة نظر كاتبها وهي بنت الصحافة نشأت بنشأتها وازدهرت بازدهارها” وتصنف المقالة والبحث العلمي كنوع من أنواع الكتابة الإبداعية شأنها شان القصة والمسرحية والشعر، إلا أن المقالة من أكثر الفنون الأدبية استيعاباً وشمولاً لشتى الموضوعات، فموضوعات كالتضخم النقدي، والعلاج بالليزر وأزمة الغذاء وارتفاع معدل الحرارة عالمياً ، لا يمكن معالجتها في قصة أو مسرحية أو حتى شعراً، ولكن المقالة وحدها تتقبل مثل هذه الموضوعات؛ وكلمة “معالجة سريعة” في التعريف تعني أن كاتب المقالة، يقوم بتحويل المادة العلمية الجافة إلى لغة علمية متأدبة، يسجل من خلالها تأملات، و تصورات أو مشاهدات تغلب عليها العفوية والسرعة؛ فلو كانت المعالجة موضوعية متأنية ودقيقة صارمة فجمعت الحقائق، وفحصت وصنفت، واعتمد على الإحصاء والتجربة والمتابعة، لعُدَّ هذا العمل بحثاً علمياً، وليس مقالة أدبية .
هذا يقودنا إلى ضرورة توضيح عناصر المقالة الأساسية و التي هي المادة والأسلوب والخطة . فالمادة هي مجموعة الأفكار ، والآراء ، والحقائق ، والمعارف والنظريات ، والتأملات، والتصورات ، والمشاهد ، والتجارب والأحاسيس ، والمشاعر ، والخبرات التي تنطوي عليها المقالة ، ويجب أن تكون المادة واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض ، وأن تكون صحيحة أما الأسلوب فهو الصياغة اللغوية ، والأدبية لمادة المقالة ، أو هو القالب الأدبي الذي تصب فيه أفكارها ، ومع أن الكتَّاب تختلف أساليبهم ، بحسب تنوع ثقافاتهم ، وتباين أمزجتهم ، وتعدد طرائق تفكيرهم ، وتفاوتهم في قدراتهم التعبيرية ، وأساليبهم التصويرية ، ومع ذلك فلا بد من حدٍّ أدنى من الخصائص الأسلوبية ، حتى يصح انتماء المقالة إلى فنون الأدب . فلا بد في أسلوب المقالة من الوضوح لقصد الإفهام ، والقوة لقصد التأثير ، والجمال لقصد الإمتاع ، فالوضوح في التفكير ، يفضي إلى الوضوح في التعبير ، ومعرفة الفروق الدقيقة ، بين المترادفات ثم استعمال الكلمة ذات المعنى الدقيق في مكانها المناسب، والأسلوب يجب أن يمتاز بالقوة، والقوة في الأسلوب سبب في قوة التأثير ، فقد يسهم الأسلوب في إحداث القناعة ، لكن قوة الأسلوب تحدث ” موقفاً ” وتأتي قوة الأسلوب من حيوية الأفكار ، ودقتها ، ومتانة الجمل ، وروعتها ، وكذلك تسهم في قوة الأسلوب الكلمات الموحية ، والعبارات الغنية ، والصورة الرائعة والتقديم والتأخير ، والإيجاز والإطناب ، والخبر والإنشاء ، والتأكيد والإسناد ، والفصل الوصل أما الجمال في الأسلوب فأنها من أجل المتعة الأدبية الخالصة ، وحينما يملك الكاتب الذوق الأدبي المرهف والأذن الموسيقية ، والقدرات البيانية ، يستطيع أن يتحاشى الكلمات الخشنة والجمل المتنافرة ، والجرس الرتيب ، وحينما يوائم بين الألفاظ والمعاني ويستوحي من خياله الصورة المعبرة ، يكون أسلوبه جميلاً . أما العنصر الثالث من عناصر المقالة فهي الخطة؛ ويسميها البعض المنهج العقلي الذي تسير عليه المقالة ، فإذا اجتمعت للكاتب أفكارٌ وآراء يريد بسطها للقراء ، وكان له من الأسلوب ما يستطيع أن تشرق فيه معانيه ، وجب ألا يهجم على الموضوع من غير أن يهيئ الخطة التي يدفع في سبيلها موضوعه . والخطة تتألف من مقدمة ، وعرض ، وخاتمة ، والمقدمة هي المدخل وتمهيد لعرض آراء الكاتب ، ويجب أن تكون أفكار المقدمة بديهية مسلماً بها ، ولا تحتاج إلى برهان ، وأن تكون شديدة الاتصال بالموضوع وأن تكون موجزة ، ومركزة ومشرقة . وأما العرض ، فهو صلب الموضوع ، وهو الأصل في المقالة ، وفيه تعرض أفكار الكاتب عرضاً صحيحاً ، وافياً متوازناً ، مترابطاً متسلسلاً ويُستحسن أن يمهد الكاتب لكل فكرة ، ويربطها بسابقتها ، ويذكر أهميتها ويشرحها ، ويعللها ، ويوازنها مع غيرها ، ويذكر أصلها وتطورها ويدعمها بشاهد أدبي ، أو تاريخي ، ويُفضل أن تُعرض كل فكرة رئيسة في فقرة مستقلة . والخاتمة تلخص النتائج التي توصل إليها الكاتب في العرض، ويجب أن تكون واضحة، صريحة وحازمة .
أما المقالة العلمية فيعرفها أهل الاختصاص على أنها “هي المقالة التي تعالج موضوعا علميا أو حقيقة علمية بقصد خدمة المعرفة والاهتمام بالفكرة دون الصورة الأدبية أو الفنية، مستندة في ذلك إلى العقل والمنطق دون العاطفة والخيال وبأسلوب واضح ومحدد وبألفاظ دقيقة دالة وبعبارات سهلة واضحة بعيدة عن التأنق والزينة؛ أهدافها تبسيط الحقائق العلمية، وتيسير نقلها إلى الجمهور “ يقول قدري طوقان في أحد كتاباته ” الشمس أقرب نجم إلينا، وتقدر المسافة بثلاثة وتسعين مليوناً من الأميال، فلو سار قطار إليها بسرعة خمسين ميلاً في الساعة لوصلها في مائتين وعشرين سنة، والأمواج اللاسلكية، التي تدور حول الأرض سبع مرات في ثانية واحدة، هذه الأمواج لو أرسلت إلى الشمس لوصلها في ثماني دقائق وربع، ولو أرسلت إلى أقرب نجم إلينا بعد الشمس لوصلته في أربع سنين ونصف ” هنا نلاحظ أسلوب المقالة العلمية المباشر الذي يعتمد على الدقة في استخدام الألفاظ، والسهولة في صوغ العبارات، والبعد عن التأنق والزينة ولا تلبس المقالة العلمية من الأدب إلا أرق ثوب .
من هذا يتبين لنا أن أسلوب الصحافة العلمية وهو الأسلوب العلمي المتأدب يستعين بالصور والعبارات الموحية وببعض الصور الخيالية والوصف الشائق الجذاب للتخفيف من جفاف المادة العلمية، بينما الأسلوب العلمي البحت في الكتابة يستند إلى العقل والمنطق والبرهان والتجربة بشكل صارم. ومن عوامل النجاح في كتابة المقالة رهافة الحسّ, وسلامة الذوق, وسعة المعرفة الثقافية, ولانفتاح على الجديد؛ ذلك أن توافر هذه الصفات مدعاة لالتقاط الموضوعات المهمة, التي تسترعي انتباه القراء على اختلاف ثقافاتهم. وهذا ليس بالأمر اليسير؛ لأن فهم نفسية القارئ, واختيار ما يثيره كمادةً للمقالة بحاجة إلى الذوق سليم, وللأحاسيس المرهفة, وكذلك لثقافة متنوعة تقودك إلى التنوع في طرح القضايا و إلى الحُسن في عرض المواضيع ومعالجتها.
في النهاية أقول إن الشخص الأكاديمي يفترض أن يكون إنسان قارئ ومثقف وواعي، وله منهج ورؤية في العمل والحياة، وقد يكون قد أعتاد كتابة أوراق العمل و التقارير والرسائل وغيرها من الكتابات الوظيفية، وهذا قد يضعه على بداية الطريق في تجربة كتابة المقالة والتي هي نوع من أنواع الكتابات الإبداعية، والتي تحتاج للتجربة والتعلُم والمران أساساً وتساعدها الموهبة؛ هذه الموهبة قد تكون في داخلك ولكن لا تشعر بها، لأنك لم تمسك القلم يوماً وتمارس الكتابة، أو أن الموهبة قد تكون تائهة منك وسط زحمة الحياة، أو مغمورة تحت ظروف ضغوط العمل اليومية؛ أن الكتابة عمل جميل وخلاق تحلق فيه روح الإنسان بحثاً عن الحقيقة، تحتاج منا للهدوء والاسترخاء والصبر للوصول لمرحلة من الاتصال بين ذات الإنسان، وعوالم مطلقة من طلاقة قدرة الله في الكون، هنا يستطيع الإنسان أن يقدم العمل الحقيقي المبدع، وأقول أن لكل البشر أفكار جميلة، لكن هذه الأفكار تحتاج إلى منهج لصياغة الأفكار بلغة واضحة وسهلة؛ وأقول أيضاً كما قال الجاحظ قديماً ” أن الأفكار ملقاة على قارعة الطريق لكل الناس، لكن العبرة بطريقة التعبير عن الفكرة”.
إعلامي ومحاضر جيولوجي بجامعة عمر المختار
Nassar.ayman@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق