تاريخ كروية الأرض
إجابةً على هذا
السؤال أحرقتْ كتب، أُدين كتّابٌ ولوحق فلكيون وأُحرق مفكرون واستغرقت الإجابة
1700 عام!
حول لاهوت المعرفة وطبيعتها
هل الأرض كروية؟
يبدو اليوم سؤالاً
سخيفاً، ومضيعة للوقت، بوعي ومعارف القرن العشرين لكنه كان، قبل قرون، سؤالاً إشكالياً
يقرر مصير البشرية وفي ضوئه ستتحدد صيغة نهائية للعلاقة ما بين الحقيقة الدينية والحقيقة
الطبيعية.
منذ زمن سحيق والأرض
كروية لكن الإنسان لم يدرك هذه الحقيقة، كحقائق مماثلة، ثم يؤمن بها، إلا لاحقاً. ومن
هنا ينبغي التفريق، على الداوم، بين الحقيقة وبين الوعي البشري بها. فالحقيقة الطبيعية
مستقلة عن الإنسان وسابقة له بينما الوعي البشري ما هو إلا محاولة فهم مستمرة، وتراكمية،
للحقيقة تأتي لاحقاً.
إن الأرض هي الأرض:
كرة معلقة في الفضاء حتى في الوقت الذي اعتقد الإنسان أنها مسطحة. وتدور حول نفسها
وحول الشمس حتى في الوقت الذي اعتقد البشر أن الشمس تدور حولها وهي الساكنة.
بعبارة أخرى: إن
الطبيعة كائنة وفق ما هي كائنة عليه لا وفق معرفة الإنسان عنها أو جهله بها. لقد آمن
البشر، لقرون خلت، أن الأرض مسطحة فهل تسطّحت؟ كما آمنوا أن الأرض ساكنة، 1700 عاما،
زاعمين أن الشمس تدور حولها فماذا حدث؟ لم يحدث شيء. لا جحود، ولا إيمان، الأولين بسكونها
أوقف حركتها ولا اعتقادهم أنها مسطحة غيّر من شكلها. المتحول الوحيد هو الوعي البشري
(الحقيقة البشرية) بينما الحقيقة الطبيعية ثابتة: حقيقة كروية الأرض ودورانها.
هل الأرض كروية؟
في الحقيقة لم
يشاهد البشر الأرض على هيئة كرة معلقة، تسبح في الفضاء، إلا منتصف القرن العشرين. كان
إطلاق وكالة الفضاء الروسية، في أكتوبر ١٩٥٧م، القمر الصناعي الأول "سبوتنيك"
في مداره حول الأرض حدثاً هاماً في تاريخ البشرية. لقد تسنى للإنسان، للمرة الأولى،
الحصول على صور واضحة ودقيقة لكوكب الأرض بواسطة آلات التصوير المثبتة على القمر الصناعي.
ثم توالت الرحلات الفضائية فهبط على سطح القمر، عام ١٩٦٦م، القمر الصناعي "لونيك
٩" بأجهزته المتطورة مرسلاً إلى محطات الاستقبال في الأرض صوراً عالية الدقة لكوكب
الأرض من سطح القمر" (1).
جاليليو جاليلي
احتاج إثبات حقيقة
كروية الأرض زمناً طويلاً. واحتاج إثبات حقيقة دوران الأرض حول الشمس، وليس العكس،
زمناً أطول.
كان إثبات كروية
الأرض حقيقةً يمكن للإنسان أن يصل إليها، بالتدريج، من خلال تراكم المعرفة البشرية
وتقدم العلم وأدواته. بعبارة أخرى: كان الزمن، وحده، كفيلاً بإثبات حقيقة كروية الأرض.
لكن إثبات حقيقة دوران الأرض حول الشمس تطلب -إلى جانب الزمن- تضحيات عظيمة من فلكيين
ومفكرين سابقين لعصرهم من مثل كوبرنيكوس وبرونو وجاليليو وغيرهم. وتلك على أية حال
فاتورة التنوير.
نظريات علمية كثيرة
لم تثبُت صحتها إلا بتراكم المعرفة ومضي الزمن. لم يكن أحد ليتوقع، مثلاً، قبل 400
عام أن تكهنات ورسومات الفلكي الإيطالي جاليليو جاليلي عن حركة الكواكب- المنشورة في
كتابه المحظور بيان الحقيقة- "مطابقةً للنموذج الحالي لمدار الكواكب السيارة الصادر
عن الإدارة القومية للملاحة الجوية والفضاء الأمريكية (N.A.S.A) والذي تم اكتشافه ومشاهدته بواسطة أحدث التلسكوبات
في العالم" (2).
والسؤال الذي لم
يجب عليه بعد هو: لماذا كان في مقدور جاليليو توقع حركة الكواكب، على نحو دقيق جداً،
ومطابق لما ستثبته بعد قرون أحدث تلسكوبات العالم في حين لم ير الكثير من مجايليه أبعد
من أقدامهم؟ لماذا القلة مبصرة، على مر العصور، والأكثرية مقلدة تردد: هذا ما وجدنا
عليه آباءنا؟ أو هذا ما اتفقت عليه الأمة كلسان العالم الإسلامي اليوم!
للزمن، أحياناً،
ظروفه القاهرة على الحقيقة والإنسان. فحتى القرن الخامس عشر كان كبار علماء أوروبا،
وليس رجال الكنيسة فحسب، يستهزئون بمن يقول بكروية الأرض ويسفّهونه إن لم يسوقوه إلى
المحكمة. كان لدى علماء العصور الوسطى، بطبيعة الحال، حُججاً وبراهين عقلية تؤكد عدم
سلامة الرأي القائل بكروية الأرض وعدم انسجامه، من حيث الفكرة، مع العقل الذي يدّعي
تمثيله الجميع. ومن ذلك، على سبيل المثال، قول علماء أوروبا: "لو كانت الأرض كروية
لانسكبت مياه البحار"! (3) وهذا منطقي من حيث المبدأ.
بنفس الطريقة،
لكن في الاتجاه والرأي المعاكس، كان ابن حزم الأندلسي يفكّر تقريباً: كان ابن حزم يقول،
فِي القرن العاشر ميلادي، إن الأرض كروية بالضرورة. وتأكيداً على رأيه القائم- كالرأي
الأوروبي المعاكس- على البرهان العقلي كان ابن حزم يقول: "لو كانت الأرض مسطحةً
لكان لها أطراف يقع الإنسان عند إحداها" (4). وكان محقاً وكانوا مخطئين. لكن فرقةً
إسلامية- ممن يتعاملون مع النصوص المقدسة بشكل حرفي على نحو طريقة الأرثوذكس في المسيحية-
اعتبرت ابن حزم قد جدّف في مقالته هذه.
كان العلماء الإسلاميون
المعارضون لفكرة كروية الأرض يستشهدون بنص قرآني هو قول البارئ: (أفلا ينظرون إلى الإبل
كيف خُلقتْ/ وإلى السماء كيف رفعتْ/ وإلى الجبال كيف نُصبتْ/ وإلى الأرض كيف سُطحتْ)
(5).
إن الأرض، بنص
الآية القرآنية، مسطحة. وابن حزم (المتوفى سنة 456هـ/ 1063م) في نظر هؤلاء العلماء
المتشددين- لتعاملهم بحرْفيةٍ جامدة مع النص القرآني- خالف بقوله بكروية الأرض صريح
القرآن ومحكم آياته! إنه فاسق!! طبعاً لم يفُت ابن حزم وهو العارف أن القرآن، حسب مقولة
الإمام علي بن أبي طالب، حمّال أوجه (6) فاستشهد، تأكيداً على كروية الأرض ورداً على
منتقديه، بآية قرآنية على نفس طريقتهم في المحاججة هي قول الحق: "يكوُّر الليل
على النهار ويكوُّر النهار على الليل"(7) إنما من دون جدوى وكأن على أبصارهم غشاوة
وبينهم وبين الحقيقة حجاب.
على أية حال فكلا
الرأيين الإسلامي والمسيحي يعتمدان، من حيث المبدأ، على البرهان العقلي. رأيُ ابن حزم:
"لو كانت الأرض مسطحةً لكان لها أطراف يقع الإنسان عند إحداها". ورأيُ علماء
أوروبا بعده: "لو كانت الأرض كرويةً لانسكبتْ مياه البحار". في الغالب يصيبُ
العقل وتصحّ استنتاجاته وتفسيراته للظواهر الطبيعية كرأي ابن حزم مثلاً. وكثيراً ما
يصيب العقل لكن تخطئ استنتاجاته وتفسيراته للظواهر كالرأي الأوروبي القائل بـ"انسكاب
مياه البحار لو كانت الأرض كروية" الصحيح عقلاً ومنطقاً والخاطئ تفسيراً واستنتاجاً.
هذا على الأرجح
أنسب مثال يؤكد أن الحقيقة الطبيعية لا تفهم دفعةً واحدة وإنما بالتدريج من خلال تراكم
المعرفة البشرية من عالم لعالم ومن جيل لآخر. فِي الواقع لقد فات علماء أوروبا، في
العصور الوسطى، إدراك حقيقة أن ثمة قوة كونية خفية، غير مرئية، تمنع انسكاب مياه المحيطات
وتحافظ على ثبات واستقرار الكرة الأرضية رغم دورانها.
إنها الجاذبية.
لا يخلو الأمر
من مفارقة كون هذه القوة الكونية الخفية، التي فاتت كبار علماء أوروبا مجتمعين، هي
ذاتها التي سيفسرها ويضع قوانينها عام 1687م منفرداً الفيزيائي الإنجليزي الملهم إسحاق
نيوتن في كتاب (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية) مُطلقاً عليها اسم "الثقالة"
أو الجاذبية.
يعرّف نيوتن الجاذبية
بأنها "القوة التي تتسبب في حركة الكواكب في مدارات بيضاوية حول الشمس، وهي القوة
نفسها التي تجعل الأشياء تسقط نحو الأرض ولا تظل ساكنة إذا ما تركناها"(8). وبهذا،
وعلى أرضية كتاب المبادئ تحديداً، ترسخت العلوم الطبيعية وتغيرت نظرة الإنسان للكون
كلياً.
والسؤال الآن:
هل الجاذبية ظاهرة
جديدة ولدت عام 1687 أم أنها قديمة، قدم الأرض، ولكن الوعي البشري بها هو المحدث لا
هي؟
من شبه المؤكد
أن الأرض تتأثر بقوى الجاذبية منذ أن وُجدت أو منذ ظهور الإنسان الأول عليها. لكن الإنسان
لم يدرك هذه الحقيقة، مثل حقيقة كروية الأرض، ويسلّم بها إلا عام 1687م. ومن هنا ينبغي
التفريق، للمرة الثانية، بين الحقيقة وبين الوعي البشري بها. المتغير هو الوعي البشري
لا الجاذبية. إنها حقيقة طبيعية منفصلة عن الوعي البشري وسابقة له. بعبارة أخرى: منذ
زمن سحيق والأرض وكواكب أخرى تتحرك، في مدارات بيضاوية، حول الشمس بتأثير قوى الجاذبية
سواء عرف الإنسان أم لم يعرف وآمن أم جحد.
تغير نظرة الإنسان
للكون
هل الأرض كروية؟
إجابةً على هذا
السؤال المُعمِّر صُودرتْ مؤلفات وأحرقتْ كتب. أُدين كتّابٌ ولوحق فلكيون وأحرق مفكرون.
كان ينبغي على أحدهم أن يضع حداً لهذا السؤال بالإجابة عليه. كان ينبغي على أحدهم أن
يوقف الجرائم المرتبكة باسم مركزية الأرض بين الكواكب السيارة ومركزية الإنسان، تالياً،
بين سائر مخلوقات المجرة. وقد كان هذا المخلّص، على غير المتوقع، رجل دين.
إن رحلةً بحرية
بالسفينة حول الأرض قام بها، في القرن السادس عشر، قسّ وليس ملاح كانت الحدث الأكثر
تأثيراً في تاريخ الغرب وتاريخ العلوم الطبيعية تحديداً. لقد نجح البولندي "كوبرنيكوس"
في القيام بالرحلة الفاصلة التي أثبتت، بالتجربة وليس بالبرهان العقلي فحسب، أن الأرض
كروية قطعاً.
كان كوبرنيكوس
يعرف جيداً أن الاستنتاجات العلمية والأسئلة الدينية المترتبة على هذه الحقيقة أكبر
من أن يعلنها، على الملأ، دفعةً واحدة. عاد إلى بولندا راهباً في كنيسة. ومن هناك أخذ
يراقب، بتأملٍ ورويةٍ، السماء المليئة بالنجوم من مقراب كنيسته. كان يعرف أنه مقدم
على إحداث ثورة في الفهم الإنساني للكون وأن الكنيسة ستقاوم نظريته فأخذ يراقب ويحلل
ويستنتج منتظراً، طول تلك المدة، الوقت المناسب لإعلان الحقيقة. (9)
هل القمر كروي
أم مسطح؟
توجد أسئلة هامشية
أخرى أقل إثارة للنقاش في التاريخ الغربي وليست بأكثر أهمية من السؤال حول كروية الأرض
وحركتها، وإن تفرعت منه وانتهت غليه. منها مثلا السؤال ما إذا كان القمر كروياً أم
مسطحاً؟
في الحقيقة كان
الاعتقاد السائد في أوروبا، لقرون، أن القمر مسطح تماماً مثل الأرض. وما أن صُححت نظرة
الإنسان إلى كوكب الأرض وتأكدت كرويته بشكل قطعي حتى صُححت، بعد مدة، نظرة الإنسان
إلى القمر. لقد أثبت جاليليو عام 1609م "أن القمر ليس مستوياً، كما كان الاعتقاد
السائد، وكذلك جميع الأجسام السماوية. وقد أكدت مشاهداته أن القمر ليس كامل الاستدارة،
كما الأرض، ففيه وديان وجبال" (10).
من أول من قال
إن الأرض كروية وتدور؟
هل الأرض كروية؟
لا أعرف، على وجه
الدقة، كم عُمر هذا السؤال. لكن من المرجح تاريخياً أن الإنسان الأول حاول، بإمكانيات
بدائية وبالعين المجردة أيضاً، الإجابة عن هذا السؤال عبر النظر إلى السماء المليئة
بالنجوم ليلاً. لقد ظل هذا السؤال، على مدى 1700 عام، سؤالاً دينياً لاهوتياً ولم يصبح
علمياً معرفياً مجردا إلا بعد رحلتي كريستوف كولمبوس ثم أبحاث نيكوس.
لم يطرح هذا السؤال،
منذ ذلك الوقت، في صيغته القديمة وإنما أخذ يطرح، في الأوساط العلمية والدينية، في
صيغة أخرى متفرعة منه أكثر إشكالاً والتباساً من السابقة: هل تدور الأرض حول الشمس
أم العكس، الشمس والكواكب الأخرى تدور حول الأرض الساكنة؟
سؤالان إذن يتفرعان
عن بعض. وهما، بالمناسبة، أكثر سؤالين أثيرا وجرى حولهما النقاش والخلاف في التاريخ
الغربي وكانا، إلى جانب حركة الإصلاح الديني، السبب الرئيس في انتصار العلوم الطبيعية
على الكنيسة. بل وانتصار العقل على النقل، والتجارب العلمية على التصورات الدينية المسبقة
عن العالم.
هل الأرض كروية؟
وهل تدور الأرض
حول الشمس أم العكس؟
لا بد من الذهاب
إلى أثينا، إذن، إجابةً على هذين السؤالين. من غير الممكن فهم ملابسات محنة علماء أوروبا،
في عصر النهضة، وما ترتب عليها من محاكمات للعلماء القائلين بدوران الأرض حول الشمس،
من دون العودة إلى أثينا وفلاسفتها قبل أكثر من ألفي عام.
إن القول بكروية
الأرض أقدم بكثير مما يتصور معظم الناس. ذلك أن كروية الأرض، سؤالاً وإجابةً، وحركةً
وسكوناً، شغلت قبل جاليليو وبرونو وكوبر نيكوس وابن حزم وابن تيمية فلاسفة الأنوار
في أثينا.
كانت أثينا متقدمة
في علوم الطب والرياضيات والفلك وأرسطو، بامتياز، أحد معلميها الكبار. كان أرسطو
(340 ق.م) على قناعة كاملة، تستند على البرهانين العقلي والنظري، بكروية الأرض. يبدو
الأمر مشوقاً للغاية. فأن يتوصل شخص إلى هذا الرأي، قبل ميلاد المسيح بأكثر من 3 قرون،
وبكيفية تقترب من الأسلوب العلمي الحديث في الرصد والتحليل لهو، بالتأكيد، شخص ملهم
حقاً وسابق لعصره.
يورد أرسطو، بعبقرية
فذة، حُججاً وأدلةً قوية تؤكد كروية الأرض في كتابه "السماوات" (On the Heavens). كان ينبغي على علماء أوروبا، في العصور الوسطى،
العودة إلى هذا الكتاب. ذلك أنه أقوى حُججاً من حجتهم السطحية البائسة: "لو كانت
الأرض كرويةً لانسكبتْ مياه البحار". وقد كان الكتاب، على الأرجح، متاحاً وفي
متناول أيديهم. لكن يبدو أن للزمن، كما سبق وقلت، وصايةً حتمية قاهرة على الحقيقة ومصادرها.
لذلك غيّب رأي أرسطو الصائب وساد لقرون رأي المتأخرين الخاطئ حول الأرض.
يقدم أرسطو، ابتداءً،
تفسيراً علمياً عميقاً لظاهرة خسوف القمر. "إن سبب خسوف القمر هو وجود الأرض،
في المنتصف، بين القمر والشمس". وبالتالِي فان الأرض تطبع ظلها على القمر مسببةً
الخسوف. لقد لاحظ أرسطو، من دون تلسكوب وبالعين المجردة، أن ظل الأرض المنطبع على القمر
دائماً يكون دائرياً وليس بيضاوياً أو مسطحاً سواءً كانت أشعة الشمس عموديةً على الأرض
أو على مستواها. ومن غير الممكن، حد أرسطو، تفسير هذا إلا بكون الأرض كرة دائرية. فلو
كانت الأرض مسطحة لكان خيالها مطولاً واهليلجياً" (11).
عدا ذلك، وإضافةً
له، كان لدى اليونانيين في زمن أرسطو وقبله حججاً أخرى تؤكد كروية الأرض. إن رؤية نجم
القطب الشمالي، في المناطق الشمالية، أقل ارتفاعاً وأقرب إلى الناظر منه في المناطق
الجنوبية لهي دليل آخر على استدارة الأرض. كما إن لديهم حُجةً ملاحية. ذلك أن رؤية
شراع السفينة أولاً ثم رؤية هيكلها بعد ذلك لهو برهان إضافي. والصورة أدناه من كتاب
د. ستيفن هوكينج، أحد أشهر فيزيائي العصر الحديث، توضح ذلك بصرياً.
كان هذا سبقاً
علمياً بامتياز استغرق إثباته، كحقيقة مسلّم بصحتها، أكثر من 1700 عام. لقد كان أرسطو
محقاً في الاعتقاد بكروية الأرض لكنه، كأي مفكر عظيم، أصاب في واحدة وأخطأ في أخرى.
كان محقاً في كروية الأرض ومخطئاً في سكونها. ذلك أنه أعتقد خطأً "أن الأرض مستقرة
وساكنة في حين أن الشمس والقمر والكواكب والنجوم تتحرك فِي مدارات دائرية حولها".
وذلك يعود "إلى أسباب دينية تجعل الأرض فِي مركز العالم وتنظر إلى الحركة الدائرية
بوصفها حركة تامة ومثالية" (12).
الأرض كروية؟
بل إن الأرض، عند
أرسطو، هي مركز الكون. أما وهي الساكنة فيما الشمس والقمر والكواكب الأخرى تدور حولها.
هذه النتيجة أفضت بدورها إلى نتيجة أخرى ملازمة لها ومتفرعة منها: تقع الأرض، كنتيجة
أولى، في مركز المجموعة الشمسية ويقع الإنسان، كنتيجة ثانية، في مركز الخليقة. كلاهما
إذن، الأرض والإنسان، مركزيان في الكون وبمثابة حجر الزاوية. ومن نكد الدنيا على فلكيي
مفكري أوروبا أن نظرية أرسطو الفلكية أصلاً أفضتْ إلى استنتاجات دينية تسببت، بعد موته
بقرون، فِي محنة عظيمة للعلماء والمفكرين في روما على نحو مماثل لمحنة خلق القرآن البغدادية
في عهد الخليفة العباسي المأمون بن الرشيد ومن تلاه.
وزاد الطين بلةً
أن وجدت النظرية الأرسطية، في القرن الثاني ميلادي، متحمساً شديداً لها. لقد تحمس بطليموس
لتصور أرسطو القائل بسكون الأرض ودوران الشمس حولها ولم يتحمس، وهو المتأخر، لما ذهب
إليه أفلاطون وفيثاغورث الذين قالا، في أواخر أيامهما، وكانا على صواب: "إن الأرض
هي من يدور حول الشمس وليس العكس وبالتالي فإن الشمس تقع في مركز المجموعة الشمسية
وليس الأرض". (13)
هل يوجد بشر في
كوكب غير الأرض؟
هل تدور الأرض
حول الشمس أم العكس؟
أول من قال إن
الأرض هي من تدور حول الشمس وأن الشمس تقع في مركز المجرة لم يكن لا كوبرنيكوس ولا
جيردانو برونو، كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما كان الفيلسوف اليوناني انكزاغوراس.
ذات الرجل الذي أحرقت أثينا كتبه وحكمت عليه بالنفي. عكف كوبرنيكوس، أثناء إقامته في
إيطاليا، على دراسة تراث انكزاغورس واقتنعه برأيه" (14) وأثبته.
كان هذا الرأي-
وهو الصواب والمثبت علمياً اليوم- يعني في أحد وجوهه أن الأرض ليست في مركز المجرة
وبالتالي فإن الله لم يضع الإنسان، وهو المخلوق الأعلى رتبة، في مركز كونه. حدث عرضي.
مجرد طاقة كهذه المنتشرة في سائر أرجاء الكون! وهذا أحد أسباب سخط الكنيسة على علماء
القرنين السادس والسابع عشر وغلظتها تجاههم.
بعبارة أخرى: الإنسان
ليس مركز الخليقة. وبالتالي فمن المحتمل أن يكون هناك، في هذا الكون الشاسع، من هو
ندّ له أو في مستوى أعلى -أو أقل- منه ذكاء وتطوراً. حتى أن بعض الأساطير القديمة والكتب
الباطنية- ككتاب العزيف مثلاً- تزعم أن "النسل البشري امتداد لنسل آخر سكن كوكب
الأرض قبل البشر من غزاة الفضاء الذين قاموا، وفق الأساطير القديمة، ببناء أهرامات
مصر وتشييد سور الصين كعلامات إرشادية يستعينون بها عند الهبوط على الأرض"
(15). وهذه الاستنتاجات تتعارض، بطبيعة الحال، مع النظرة الدينية للإنسان كمخلوق يحتل
الصدارة بين سائر الكائنات الحية. ولهذا السبب على الأرجح أُحيل رأي انكزاغوراس إلى
الهامش.
إن القول بعدم
مركزية كوكب الأرض يفتح الباب على مصراعيه لفكرة سينمائية وأدت في أكثر من عصر: وأدت
أول مرة في أثينا الوثنية عندما طرحت، في القرن الخامس قبل الميلاد، من قبل فيلسوف
أثينا المنفي والمحروقة كتبه "أنكزاغورس" (16). ثم بعثت من جديد في عصر النهضة
الإيطالي على يد "جيوردانو برونو" فوأدتها ثانيةً روما الكاثوليكية. ثم بعثت
للمرة الثالثة أواخر القرن الماضي- ولمّا توأد بعد- لتصبح الفكرة الأكثر رواجاً في
العصر الحديث.
إنها أيقونة هوليود
ومادة إلهام كتاب أفلام الخيال العلمي: فكرة "وجود بشر على كوكب غير الأرض"!
لماذا تبنى الفاتيكان
تصور بطليموس وما ترتب عليه
تقع الأرض، وفق
تصور بطليموس، في مركز المجموعة الشمسية محاطةً بثمانية مسارات دائرية للقمر، الشمس،
النجوم، وخمسة كواكب كانت معروفة فِي ذلك الوقت هي: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري،
زحل". إن أهم ميزة في تصور بطليموس أنه "ترك مساحة كبيرة خارج دائرة النجوم
الثابتة للجنة والنار" (17). من أجل ذلك -ولأنه الأكثر موافقةً للنصوص الدينية-
تبنته الكنيسة الكاثوليكية بعد الألفية الأولى كنظرية رسمية دينية للفاتيكان عن الكون
وحركة الأجرام السماوية.
مر تصور بطليموس
إذن بثلاث مراحل: كان فِي البداية رأياً يحتمل الصواب والخطأ. ثم أصبح، مع الوقت، مسلّمة
فلكية لدى علماء الرياضيات. ثم تحول، بمصادقة الكنيسة عليه، من تصور فلكي خاطئ إلى
حقيقة كاثوليكية مقدسة لا يمكن مناقشتها أو التشكيك يها. الشكل التالي يوضح، بصرياً،
تصور بطليموس للمجموعة الشمسية الذي تبناه الفاتيكان رسمياً فأصبح، في القرون الوسطى،
سبب محنة عظيمة.
هذا الشكل أعلاه
هو سبب محنة أستاذ المنوّر جاليليو جاليلي ومن قبله كوبر نيكوس. هذا الشكل كان سبباً
رئيسياً في إحراق كتب المفكر الإيطالي "جيوردانو برونو" وإحراقه حياً، كمهرطق،
في إحدى ساحات العامة بروما بعد اعتقال وتعذيب 8 سنوات.
استناداً على هذا
الشكل، ودفاعاً عنه، عُقدت المحاكم ووجهت التهم: بالجملة والتجزئة. استناداً على هذا
الشكل، ومن إلهاماته أيضاً، كانت الكنيسة تقول: إن الأرض مركز الكون -أما والشمس والكواكب
الأخرى تدور حولها- وإن الحنة بالتالي فوق الأرض ونار جهنم تحتها".
وجاء المخلص.
جاء الرجل الذي
كُتب على شاهدة قبره: "هو من أوقف الشمس وحرّك الأرض" (18) تعبيراً عن الانعطافة
الأهم في تاريخ العلوم الطبيعية الحديثة. يعرف معظم الناس أن اسم هذا الشخص هو نيكولاس
كوبرنيكوس (Nicholas
Copernicus)
لكن القليل منهم يعرفون أنه نشر نظريته، في البداية، من دون نشر اسمه مخافة مساءلة
الكنيسة (19).
يبدو الأمر مريعاً.
إن خوف كوبرنيكوس من الاتهام بالهرطقة جعله يجازف بنشر نظرية غيّرت التاريخ من دون
تذيليها باسمه ونسبتها إليها. لم يخش كوبرنيكوس أن تُنسب النظرية لغيره، وكان احتمالا
وارداً، إيماناً منه بفكرة أن خلود الحقيقة ونشرها أهم من خلود الاسم ونشره.
لقد قدم كوبرنيكوس،
عام 1514، "نموذجاً أبسط من نموذج بطليموس فكرته الأساسية أن الشمس ساكنة في المركز
وأن الأرض والكواكب تتحرك حولها بمسارات دائرية". ومثل أرسطو، من قبل، أصاب كوبرنيكوس
وأخطأ. كان كوبرنيكوس محقاً فِي سكون الشمس ودوران الأرض حولها غير إنه، كأي عبقري،
كان مخطئاً في المسارات الدائرية. إن النظر إلى الدائرة باعتبارها أكثر الأشكال اكتمالاً
وبالتالي قداسة كان موافقاً لرأي الكنيسة التي قدست الدائرة في حين أن حركة الكواكب،
كما هو مؤكد اليوم علمياً، تتم بشكل اهليلجي.
من مميزات كوبرنيكوس
أنه كان رجلاً شديد الحيطة والحذر. وبحسب هارت: فقد "ألقى في سنة 1533، وهو في
الستين من عمره، سلسلة من المحاضرات في روما عرض فيها مبادئ نظريته دون أن يثير غضب
الفاتيكان. وحتى عندما أكمل الكتاب فإنه تردد في نشره خوفاً من الكنيسة ولم يقرر نشر
كتابه إلا عندما بلغ أواخر الستينات من عمره، فلم ير النسخة الأولى إلا يوم وفاته في
24 مايو 1543م" (20). الكتاب الذي كان نقطة البدء لعلم الفلك الحديث".
أحسنت الأقدار
هذه المرة. فمن حسن حظ كوبرنيكوس البولندي، مولداً وحياة، أنه كان بعيداً نوعاً ما
عن سطوة رجال دين روما. ومن حسن حظه، ثانيةً، أنه توفِي عام 1543م. أي قبل تأسيس محاكم
الرومانية بأقل من عام. لقد نجا كوبرنيكوس، لأسباب عدة، من محاكم التفتيش لكن كتابه
"حركات الأجرام السماوية" لم ينج من الحظر. فقد حرمته الكنيسة وأدرجته ضمن
قائمة الكتب المحرمة وقالت: "إن ما فيه وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل"!
سبق الإشارة إلى
أن أوروبا شهدت ثلاثة محاكم التفتيش: الأولى (محاكم التفتيش البابوية) التي أسسها البابا
جريجوري التاسع عام 1231م الخاصة بـ"المهرطقين والسحرة والمشعوذين". الثانية
(محاكم التفتيش الإسبانية) الخاصة بالمسلمين واليهود. وأما الثالثة (محاكم التفتيش
الرومانية) فقد كانت خاصة بالعلماء ورجال الفكر ومؤلفاتهم وقد أسسها البابا بولس الثالث
عام 1542م (21) –أي قبل وفاة نيكوس بأقل من عام- خصيصاً من أجل مقاومة أفكاره هو والتصدي
لـ"الكوبرنيكة" ومؤيديها.
حسنُ حظ كوبرنيكوس
هذا كان سوء حظ لجاليليو جاليلي (Galilio Galilei)
المولود في إيطاليا: بلد الكنيسة. ومتى؟ بعد 11 عام فقط من تأسيس (محاكم التفتيش الرومانية)
الخاصة بالمفكرين. المحكمة التي سيكون هو، أكثر من غيره، من أكثر زوارها ومن أكثر المتهمين
وقوفاً أمام كرادلتها.
هل تدور الأرض
حول الشمس أم العكس؟
كل النظريات والأفكار
بحاجة إلى تراكم المعرفة البشرية عبر الزمن. فهذه نظرية كوبرنيكوس، وعلى الرغم من أنها
نشرت عام 1514م إلا أنها، لم تؤخذ جدياً إلا بعد قرن من نشرها من قبل عالِمين أدرجت
الكنيسة الكاثوليكية، فيما بعد، كتبهما في قائمة الكتب المحرمة أيضاً: الألماني
"يوهانز كبلر" والإيطالي "جاليليو جاليلي" باعتبارهما أول من أيّد،
علناً، الكوبيرنيكية.
كان جاليليو -بفضل
التلسكوب المكتشف حديثاً والذي طوِّر على يديه- على قناعة تامة أن أفكاره صحيحة وأن
الأرض هي من تدور حول الشمس وليس العكس وبالبرهانين: المادي والعقلي. فعام 1609م، وباستخدام
التلسكوب، اكتشف جاليليو حقائق كثيرة ودحض اعتقادات كثيرة خاطئة وفِي مقدمتها الاعتقاد
الخاطئ باستواء القمر.
دحض أيضاً اعتقادات
أخرى كثيرة خاطئة كانت سائدة في وقته. فـ"نظر إلى الطريق اللبني في السماء فلم
يجد طريقاً ولا يكن لبنياً وإنما هي مجموعة هائلة من النجوم التي لا نهاية لها. ونظر
إلى الكواكب فوجد دوائر تلف كوكب زحل. وشاهد بقعاً سوداء في الشمس. كما لاحظ أن كوكب
الزهرة يمر بمراحل مختلفة يمر بها القمر" (22).
والأهم من ذلك
"أنه رأى، وهو يراقب كوكب المشتري، أربعة أقمار تدور حول المشتري وفي ذلك دليل
جديد على أنه من الممكن أن تكون هناك أقمار أخرى تدور حول كواكب أخرى غير الأرض".
بعبارة أخرى: إن أقمار المشتري تثبت، بشكل قاطع، أن الأرض ليست مركز الكون. فوجود أربعة
أقمار تدور حول المشتري يعني "أنه ليس على جميع الكواكب الدوران حول الأرض"
حسب ستيفن هوكينغ وبالتالي فهي تؤكد صحة نظرية كوبرنيكوس (23).
كبلر هو الآخر
لم يؤيد نظرية كوبرنيكوس فحسب وإنما عدل بعض أخطائها ونقّحها. كان كوبرنيكوس، كما سلف،
مخطئاً فِي وصف حركة الكواكب بالدائرية. وهذا أيضاً "رأي الكنيسة التي قدست الدائرة
باعتبارها أكثر كمالاً" (24). في الحقيقة إن حركة الكواكب، بخلاف نيكوس وكما هو
مثبت اليوم، تتم بشكل اهليلجي. وهذا الرأي أو الاكتشاف يعود فضله ليوهانز كبلر (Johannes Kepler) كأول من وصف حركة الكواكب بالاهليلجية.
نيوتن
لقد أخطأ كوبرنيكوس
"في تقدير اتساع المجموعة الشمسية كما أخطأ في تصور حركة الكواكب بوصفها دائرية
أو نصف دائرية" لكنه نجح في تحريك المياه الراكدة. "لقد أثار اهتماماً بالغاً
وأيقظ فلكيين آخرين وحفزهم لإكمال الثورة الفلكية خصوصاً الفلكي الدنمركي: تيخو براهه
الذي استطاع، حسب هارت، أن يسجل ملاحظاته الأكثر دقة عن دورة الكواكب حول الشمس. وهذه
الملاحظات كانت المفتاح الذي بنا عليه كبلر تصوره الدقيق عن حركة الكواكب"(25).
النظريات العلمية
بوصفها عملية تراكمية
تبلورت معظم النظريات
العلمية على هذا النحو. إنها حلقة مستمرة من جهود علماء سابقين يجري استكمالها وتطويرها
من علماء لاحقين. فكوبرنيكوس أكمل، وطور، ما بدأه انكزاغورس وأثبته علمياً. و"تيخو
براهه" الفلكي الدنماركي أكمل ما بدأه كوبرنيكوس قبله وسجل ملاحظات هامة حول حركة
الكواكب لمن بعده. ثم جاء كبلر ليكمل، ويصحح، جهود العلماء السابقين ويخرج بالتصور
العلمي الصحيح حول حركة الكواكب الإهليلجية.
وكما أكمل كبلر
جهود علماء سابقين له كانت بعض أفكاره بحاجة إلى من يكملها من بعده. لقد ألّحتْ على
كبلر، في نفس الفترة، أفكار كثيرة أهمها من ناحية علمية فكرته القائلة: "إن الكواكب
تدور حول الشمس بتأثير قوى مغناطيسية"، وهي في زمانها فكرة ثورية لكن كبلر لم
يستطع تحديد ماهية هذه القوى المغناطيسية أو تفسير طبيعتها ومن ثم صياغتها في قانون.
لم يمض زمن طويل
حتى جاء الجواب حاملاً إمضاء فيزيائي إنجليزي وليس ألمانِي أكمل فكرة كبلر وأثبتها
علمياً وصاغها في قانون جديد. لقد فسر السير إسحاق نيوتن عام 1687م ظاهرة القوى المغناطيسية،
بعمق وكلّية ومعادلات رياضية دقيقة، في كتابه فلسفة الرياضيات الطبيعية ومبادئها (Philosophiae Naturalis Principia
Mathematica).
الكتاب "الذي ربما يكون أهم عمل فردي أصدر في العلوم الفيزيائية" حد تعبير
ستيفن هوكينج. وكان نيوتن تفسير كالتالي: "إن الجاذبية هي التي تجعل القمر يتحرك
في مدار اهليلجي حول الأرض وهي أيضاً سبب دوران الأرض والكواكب حول الشمس في مدار اهليلجي"
(26) واضعاً القانون العام للجاذبية وقانوني الحركة.
نظريتان، إذن،
غيرتا العالم: بإعلان كوبرنيكوس نظريته عن حركة الأجرام السماوية عام 1514م وبإعلان
أسحق نيوتن نظرية الجاذبية، الأكثر دقة وصرامة، عام 1687م تغيرت نظرة الإنسان للكون،
جذرياً، وتغيرت العلوم الطبيعية. الأول –وهو الذي أصاب الكنيسة بمقتل- كان كاهناً في
كنيسة. فيما كان الثانِي رئيساً للجمعية الملكية البريطانية.
بين هذين الإعلانين
(1514- 1687م) جرت أحداث كثيرة: جرى اضطهاد مؤلفين وحبس فلكين. إحراق كتب وحظر أفكار.
بين هذين العامين حرّمت الكوبرنيكية وأدين مؤيدوها. بين هذين العامين وقعت محنة جاليليو
الشهيرة على أكثر من نسخة.
أحرق بين هذين
العامين، أيضاً، الايطالي "جيردانو برونو" في إحدى الساحات العامة بروما.
كان ذلك، على وجه التحديد، في يوم 17/2/ 1600م ولست أدري في أي ساعة. عُصبتْ عيناه
ويداه وسِيق، في ثياب مهرطق، إلى ساحة الإعدام. لقد أُحرق برونو حياً، في الـ 53 من
عمره، بسبب فكرة أو بالأحرى رأي فلكي! لستُ متأكداً هل صرخ برونو لحظة اشتعال جسمه
أم أنه كابر وانسجم في صمت مع موسيقى اللهب؟ ما أنا متأكد منه قطعاً أنه قال -في آخر
لحظات حياته- لكرادلة الكنيسة الذين حاكموه متهكماً: "ربما كنتم أنتم يا من نطقتم
الحكم بإعدامي أشد جزعاً وخشية مني أنا الذي تلقيته"! (27).
وأضرمت النار.
أين كان رجال الإطفاء؟
وإذن: هل الأرض
كروية؟ سؤال فلكي تفرع منه سؤال آخر هو: هل تدور الأرض حول الشمس أم العكس؟ وهذا السؤال،
والمتفرع منه، هما أكثر سؤالين أثيرا في التاريخ المسيحي يعادلهما في التراث الإسلامي،
من حيث الجدل والمحاكمات، سؤال عقائدي -وهنا جوهر الفرق- وليس سؤالاً فلكياً أو فيزيائياً
في مقدور التلسكوب أو الميكروسكوب الإجابة عليه. إن سؤال الأسئلة في الإسلام، لقرون،
هو: هل القرآن مخلوق أم أنه كلام الله؟
السؤال الأول كان
سبباً مباشراً في ثورة العلوم الطبيعية والنهضة الحديثة للغرب. بينما كان السؤال الثاني
سبباً مباشراً في وأد العلوم الطبيعية وواقع العالم العربي والإسلامي اليوم.
وهذا هو موضوع
المبحث التالي.
الأرض ليست كروية:
نماذج من القرن الـ20
واحدة بواحدة:
واحدة من الغرب، على طريقتي المفضلة، وأخرى من الشرق. واحدة من العالم المسيحي، للإنصاف،
وأخرى من الإسلامي. هذان نموذجان لأشخاص، من القرن العشرين، لا يؤمنون بكروية الأرض
رغم مضي أكثر من 500 عام على حسم حقيقة كروية الأرض.
نموذج من الغرب:
كان "برتراند
راسل" يتحدث، في محاضرة عامة، كيف "أن الأرض تدور حول الشمس، وكيف أن الشمس
بدورها تدور حول محور مجموعة كبيرة من النجوم المسماة مجرتنا. في نهاية المحاضرة نهضت
سيدة عجوز في آخر القاعة وقالت: "ليس ما قلته لنا سوى هراء. فالعالَم في حقيقته
صفيحة مسطحة مرتكزة على ظهر سلحفاة عملاقة". ابتسم العالم ابتسامة كبيرة وسألها:
"وعلى ماذا تقف السلحفاة؟" أجابته العجوز: "أنت ذكي جداً أيها الشاب،
لكنها سلاحف تتلاحق (أو تتراص) حتى تصل إلى الأسفل"! (28).
نموذج من الشرق:
كان مفتي الديار
السعودية، لعقود من القرن الماضي، المرحوم الشيح "ابن باز" يجد صعوبة بالغة
في تقبل فكرة كروية الأرض. وله، في مجموع فتاواه، فتوى شهيرة تكفر من يقول بكروية الأرض
وعليه أن "يستتاب لثلاثة أيام". صحيح أن الشيخ ابن باز تراجع، بعد أمد، عن
فتوى التكفير بعد أن اجتهد على إقناعه الشيخ عبدالمجيد الزنداني. لكن لا يزال الكثير
من التيار السلفي، شيوخاً وطلاباً، على قناعتهم الأولى بحرمة القول بكروية الأرض لتعارض
هذه الحقيقة مع حديث "أن مكة تحت العرش". وللأمانة لست متأكداً من صحة فتوى
تكفير أخرى تنسب لأحد أبرز مشايخ التيار السلفي في اليمن مقبل الوادعي تلميذ ابن باز.
الأكيد أن شخصاً
ما جاء لأحد مشايخ التيار السلفي الكبار فقال: "إذا كانت الأرض تدور فإن هذا يعني،
بالضرورة، أن القبلة تدور أيضاً وبالتالي فاتجاه المسلمين، عند الصلاة، جهة مكة المكرمة
خاضع هو الآخر للدوران. وهل المقصود بالسماء في الكتاب ما فوقنا تحديداً أم أنها الفضاء
الخارجي ككل بما في ذلك ما تحت الأرض وفوقها على اعتبار أنها كرة معلقة في الفضاء"..
وغير ذلك؟ لم يجب الشيخ يومها على أسئلة الرجل التي كانت، على الأرجح، إحدى أسباب فتاوى
شيوخ التيار السلفي القائلة بحرمة الاعتقاد بكروية الأرض. (29)
العجيب بحق أن
أبرز شيوخ التيار الحنبلي الأوائل، في العصور الوسطى، كانت آراؤهم بهذا الخصوص أكثر
تقدماً وتعقلاً من آراء المتأخرين من السلف. يكفي الإشارة إلى الإمام ابن القيم الجوزية
الذي قال بكروية الأرض، تلميحاً، في كتابه "التبيان في أقسام القرآن". وقبله
الإمام "ابن تيمية" الذي قال صراحةً في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل
دين المسيح" بالحرف الواحد: "اعلمْ أن الأرض قد اتفقوا على أنها كروية الشكل
وليست تحت وجه الأرض إلا وسطها ونهاية التحت المركز وهو الذي يسمى محيط الأثقال".
أو الإمام الفخر الرازي، في تفسيره "مفاتيح الغيب"، الذي قال: "إن مد
الأرض هو بسطها إلى ما لا يدرك منتهاه، وقد جعل الله حجم الأرض عظيماً لا يقع البصر
على منتهاه، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح المستوي
الامتداد". وعلى الرغم من هذه الآراء المتقدمة في العالم الإسلامي لم يتغير مسار
مياه النهر!
المراجع: