عبدالفتاح حيدرة:- المصدر اون لاين
لطالما سحرتني الحكايات العلمية عن الكون الفسيح والهائل، وعن جزيئات المادة وصغرها المتناهي، وكنت في كثير من المرات اندهش أكثر من أن أعرف أو أفهم، وأتذكر أن أحد الكتب التي اقتنيتها في المرحلة الإعدادية كانت عن شرح النظرية النسبية لمؤلف عربي متخصص في مجال الفلسفة، ولم أفطن إلى أن التعقيد في نظرية النسبية لم يكن ينقصه تعقيد الفلسفة، والنتيجة أنني لم أفهم شيئاً سوى أن الضوء الذي يلمع في السماء هو لنجم لم يعد موجوداً أصلاً.
مع ذلك ظللت أقرأ بعناد بغل ما يقع تحت يدي من قصص علمية، ولسوء حظي أو فهمي فقد كنت أتعقد أكثر، وعندما كتبت ذات مرة في هذا المكان عن تقنية النانو شعرت وكأنني كتبت لنفسي فقط، فتركت هذه العادة السيئة، وانصرفت ومعي القارئ تقريباً إلى الاهتمام بقصصنا اليمنية التقليدية جداً، التي لا تنتمي إلى عصر العلم أبداً.
في الواقع ظلت هناك أشياء علمية تلهب خيالي باستمرار من نوع أن الضوء يقطع المسافة بين الأرض والقمر في زمن مقداره ثانية واحدة، وهذه مفهومة، لكن أن يستطيع العلم إيجاد مقاييس لتحديد الزمن الذي يقطعه الضوء بين قطر شعرة الرأس فهذا يشبه معنى الجملة التي كان يرددها استاذ الرياضيات في مدرستنا بالقرية عندما نسأله عن مسألة حسابية صعبة فيرد: "اذا كنت عاجب فأنا مطنن"!
حسناً، العالم العربي أحمد زويل نال جائزة نوبل في الكيمياء لأنه تمكن من وضع وحدة قياس يستطيع بها حساب الزمن الذي يقطعه الضوء بين قطر الشعرة، وحدة القياس هذه أو التقويم الزمني بوصف زويل هي "الفمتو ثانية" وهي تساوي جزء من مليون مليار جزء من الثانية، وبكلام مفهوم فإن النسبة بين الثانية والفيمتو ثانية هي النسبة بين الثانية و32 مليون سنة. والإنجاز الرئيسي في عمل زويل أنه استطاع أن يرصد ويصور التفاعلات الكيميائية الدقيقة داخل الذرة وبذلك يكون أول شاهد عيان للأحداث الكيميائية التي تقع في زمن يقدر بجزء من مليون بليون من الثانية.
وكنت قد سمعت أن كبير العلماء العرب زويل، المرشح للفوز بجائزة نوبل للمرة الثانية في مجال الطب، يمتاز بقدرته على شرح الأشياء المعقدة بطريقة سهلة وميسرة، فاشتريت كتابه "عصر العلم" الذي صدر في العام 2005 وطبع منه حتى العام الجاري 12 طبعة، وقرأت في الجزء الأول منه رحلة "أذكى رجل مصري" إلى بلاد العم سام والصدمات العلمية والسياسية والحضارية التي واجهته في ذلك المجتمع، وكيف كانت مالكة المنزل الذي استأجر فيه أول شقة في ولاية فيلادلفيا تشرح له أن الجهاز الموجود في ركن المطبخ اسمه"ثلاجة" وهو يستخدم لتبريد الأشياء، ولم يستطع إقناعها أنه قادم من بلد توجد فيه مثل هذه الأجهزة ولا داعي لشرحها أو طريقة استخدامها.
ومن عاداتي التي أحاول التخلي عنها أن إعجابي بالكتاب ينتقل على الفور إلى المؤلف، وأحياناً يُهيأ لي أن المؤلف أصبح يعرفني لكثرة ما قرأت له، وسيستقبلني بالأحضان في أول لقاء. في الواقع هناك دائماً علاقة تنشأ بين القارئ والمؤلف، غير أني "زودتها حبتين" وأنا أتهيأ للقاء زويل في منتدى الإعلام العربي الذي عقد في مايو الماضي في دبي وافتتح جلساته زويل بكلمة عدها المتابعون أشهر كلمة افتتاحية قيلت في المنتدى منذ انطلاقه قبل 9 سنوات.
زويل الذي جاء إلى المنتدى بصحبة الشيخ محمد بن راشد خيب ظني الساذج ولم يتعرف إليّ بين 1800 شخص حضروا الجلسة الافتتاحية، حتى وأنا أصافحه بعد أن ألقى الكلمة، فقد كان مشغولاً بالمئات الذين التفوا حوله وبينهم الكاتب فهمي هويدي الذي كتب مقالاً قبل فوز زويل بنوبل، انتقد فيها احتفالات الحكومة المصرية المبالغ فيها بزويل، ووصفها بالزفة التي لا داعي لها ولمح في المقال إلى ارتباط هذا الأخير بدوائر وأجهزة معروفة بعلاقتها المتينة باسرائيل، ذلك كان في نهاية التسعينيات، ويبدو أن رأي الرجل في زويل قد تغير. وبالنسبة لي، ورغم أن زويل -كما اتفقنا- صديقي، لم أقاطع ما يكتب هويدي ولا زلت مستمراً في قراءة عموده الأسبوعي في جريدة الخليج الإماراتية.
في الجلسة الافتتاحية التي ألقى فيها زويل كلمته وهي مسجلة على موقع اليوتيوب كان الصديق نصر طه مصطفى والعميد علي الشاطر يجلسان في الصفوف الأمامية يستمعون إلى ما يقوله الرجل عن خطط أمريكا لإرسال رجل إلى سطح المريخ، والخلايا الجذعية التي ستمكن الإنسان من صناعة قلب أو رئة احتياطيين يحتفظ بهما في الثلاجة لتبديلهما وقت الحاجة، وصعوبة غلق النوافذ الإعلامية والسماء ممطرة بالمعرفة، وقد خطر لي في تلك اللحظات سؤال بدا لي فيما بعد غبياً جداً: هل سينقل الشاطر شيئاً من حديث زويل إلى الرئيس في أول لقاء له به؟
نصيحتي للقارئ أن يقرأ "عصر العلم" الذي ألفه زويل وحرره الصحفي المصري أحمد المسلماني الذي يحب أن يوصف بالسكرتير الإعلامي للعالِم العربي، وفي الكتاب قصة الرجل المصري المقعد الذي يعيش على بيع عقود الياسمين في ساحة مسجد الحسين بالقاهرة الذي أجهش بالبكاء فور رؤيته للعالم زويل افتخاراً به، مصرّاً على إهدائه كل عقود الياسمين رافضاً أي مقابل مادي.
هذه القصة هزتني، كما قصص كثيرة عبرت بصدق عن فرح المصريين بعالمهم الكبير دون أن يعرفوا -كما قال زويل- بما حققه لأنهم لم يكن يعنيهم ذلك. كان يهمهم أن واحداً من أبنائهم بسحنته التي تشبههم قد أدخل إلى قلوبهم الفرح والأمل، ويستطيعون أن يتباهوا به ويتفاخروا كما لو أن هذا الرجل واحد من أفراد عائلاتهم، كما يقول الكاتب صلاح منتصر "ربما ابنك أو أخوك أو عمك، وفي كل الحالات فأنت تريد أن تحتضنه وتضمه إلى صدرك".
كل عام وأنتم بخير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق