حوكمة الإنترنت
عمر الحياني (اليمن)
هل الإنترنت على وشك الانهيار والتشظي؟
قبل شهور لم تكن أميركا، التي على أرضها اخترعت شبكة الإنترنت، توافق على فكرة الجلوس
على طاولة المفاوضات مع الأطراف ذات المصلحة، للاتفاق على مستقبل إدارة الإنترنت.
ظلت الدعوات المتتالية تتلاحق، وتدعو إلى
تغيير واقع إدارة الشبكة، لتمثل فيها جميع الأطراف في ظل توجهات إقليمية، تسعى إلى
بناء شبكاتها الخاصة، فالصين تسعى جاهدة إلى تصميم وبناء شبكتها الخاصة، وأوروبا، هي
الأخرى، تهدد باللجوء إلى تأسيس شبكتها الأوروبية، وكل من روسيا والهند والبرازيل تطمح
إلى دور محوري في إدارة الإنترنت.
شبكة الانترنت في منعطف خطير أمام التجاذبات
المختلفة بين الأطراف، يضع الجميع أمام قول سلسيان الأرستقراطي في رواية ليوبارد، عشية
توحيد إيطاليا "إذا كنا نريد أن تبقى الأمور كما هي، فالأمور يجب أن تتغير".
إذاً، لابد من حتمية التغيير في إدارة شبكة
الإنترنت، يمثل فيها جميع الأطراف، بعيداً عن تحكم طرف واحد. ففي وقت كانت فيه الولايات
المتحدة منغمسة في التجسس على الشبكة كانت الأطراف الأخرى تعقد المؤتمرات والقمم والمنتديات،
للخروج برؤية موحدة لإدارة الإنترنت.
مثلت العاصفة التي أحدثها سنودن حول تجسس
وكالة الأمن القومي الأميركية على شبكة الانترنت، نقطة تحوّل في تصاعد وتيرة الانتقادات
الموجهة للولايات المتحدة الأميركية، من دول وأطراف عديدة ذات المصلحة، ومنها الأمم
المتحدة التي طالبت بسرعة الاتفاق على إدارة دولية للإنترنت، وتعزيز النفاذ إلى شبكة
الإنترنت، وأمن واستقرار وتنمية الشبكة.
وللتخفيف من حدة هذه الانتقادات، أعلنت
واشنطن في مارس/آذار 2014، تخليها عن دور الإشراف على الإنترنت، بداية من العام المقبل.
وأبدت الحكومة الأميركية استعدادها للتخلي
عن دورها في الإشراف على توزيع أسماء نطاقات الإنترنت، عبر منظمة الآيكان، واقترحت
إسناد هذه المهمة إلى هيئة دولية. وأوضحت وزارة التجارة الأميركية في بيان لها
"إنها ستدعو جميع الأطراف المعنية حول العالم إلى التفكير في طرق تتيح للحكومة
الأميركية التخلص من دورها المركزي في إدارة شبكة الإنترنت عبر هيئة الآيكان".
وبمجرد إعلان الولايات المتحدة تخليها عن
هذا الدور، بدأ الصراع بشأن الجهة التي ستتحكم في إدارة الإنترنت مستقبلاً، فبعض الدول،
كالصين وروسيا وتركيا، ودول أخرى، تسعى إلى الفوز بتنظيم إدارة الإنترنت على المستوى
المحلي أو الإقليمي، على الرغم من سجلها السيء في الرقابة على شبكة الإنترنت ووسائل
الإعلام، وهو ما ينذر بخطر كبير على شبكة الإنترنت ودورها المحوري، في تعزيز قيم الحرية
والرأي والتفاعل العالمي.
إن دولاً كثيرة لا تبحث عن إنترنت حرّ ومفتوح،
بل تسعى إلى مزيد من الرقابة والتحكم في شبكة الإنترنت عبر ممارساتٍ، لا تنسجم مع أبسط
المعايير الإنسانية لحقوق الإنسان، في حرية الرأي والتعبير. وهو ما دفع المشرّعين الأميركيين
إلى التقدم بمشروع قانون، لإعاقة مسيرة انسحاب الولايات المتحدة عن دورها المركزي،
في الإشراف على شبكة الإنترنت.
ولم يكن الصراع القائم بين دول العالم بشأن
إدارة الإنترنت ودور أميركا المركزي في الإشراف على الشبكة وليد لحظة فضيحة التجسس
الأميركي على شبكة الإنترنت. إذ إن دولاً ومؤسسات عديدة، وحتى الأمم المتحدة ظلت تطالب
الولايات المتحدة الأميركية، لأكثر من 16 عاماً، بالتخلي عن سيطرتها الكاملة على إدارة
الإنترنت، من خلال هيئة (الآيكان) (ICANN)
التي تعتبر الجهة الضابطة للإنترنت، والمتخصصة في توزيع أسماء المجال ونطاقات الإنترنت.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تعد
منشأ الإنترنت، لكن هذا لا يمنحها حق السيطرة الفردية على إدارة تلك الشبكة، إذ إنها
أصبحت شبكة عالمية. وتتحكم الولايات المتحدة في الإنترنت عبر ما يعرف بالخوادم الجذرية
(Root Servers)، والتي يمر عبرها كل مستخدم
للإنترنت، ليصل إلى أي موقع في أي مكان في العالم. وينتشر حول العالم 13 خادماً جذرياً
(10 خوادم منها في الولايات المتحدة تدير معظمها وكالات حكومية ومؤسسات علمية و3 في
مناطق أخرى في العالم).
وتعد الخوادم الجذرية محور الاعتراض العالمي
على هيمنة الولايات المتحدة، ممثلة بوزارة التجارة، عبر سلطة تعيين أرقام الإنترنت
(IANA) التابعة لهيئة الآيكان،
على الشبكة العالمية للإنترنت. ما يعني تمكن الحكومة الأميركية من إجراء تغييرات أحادية
الجانب على أسماء النطاقات، بالإضافة إلى مقدرتها التكنولوجية العالية في التجسس على
كل ما يدور في شبكة الإنترنت، وهو ما سبب قلق العديد من الحكومات الأخرى باعتبار الإنترنت
عصب الحياة في القرن الواحد والعشرين، وخاصة أنه أصبح ذا طبيعة خاصة تتعلق بالأمن والسيادة
الوطنية.
وقد مرت شبكة الإنترنت بتغيرات جذرية منذ
انطلاقتها من شبكة خاصة بوزارة الدفاع الأميركية، إلى كيان عالمي هائل من المعلومات
والبيانات. وبرزت، خلال هذه المراحل، تعقيدات وتطورات هائلة في المفاهيم التكنولوجية،
لعل أبرزها مفهوم حوكمة الإنترنت، أو إدارة الإنترنت، وهما يحملان المعنى نفسه، كأحد
أهم ملامح العالم الرقمي الرئيسية.
ويرى الناشطون المعنيون بحقوق الإنسان،
أن حوكمة الإنترنت، من منظورهم، هي حرية التعبير وضمان الخصوصية، على الرغم من أن الأخير
أصبح مفهوماً لا وجود فعلياً له، في الواقع.
ويعتقد الجانب الحكومي أن مفهوم حوكمة الإنترنت
ما هو إلا سيطرة الحكومة على كل ما يتعلق بالقضايا الخاصة بحوكمة الإنترنت، على المستوى
الحكومي، مع مشاركة محدودة من الأطراف الأخرى. ومع تلك الجدليات التي رافقت المراحل
الأولى بشأن التفاوض حول إدارة الإنترنت، جمعت اللجنة المكلفة بإدارة الإنترنت (WGIG) مختلف الأطراف ذات الصلة
التي أثمرت في صياغة تعريف عملي لمفهوم حوكمة الإنترنت: "يقصد بإدارة الإنترنت
قيام الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، كل حسب دوره، بوضع وتطبيق مبادئ ومعايير
وقواعد وإجراءات لصنع القرار، وبرامج مشتركة تشكل مسار تطور الإنترنت واستخدامه".
وحسب جوفان كورباليجا وإدوارد جلبشتاين،
يمثل هذا التعريف "نقطة انطلاق للجدل الدائر حول أيهما أكثر وضوحاً من اللفظتين،
المشار إليهما في حوكمة الإنترنت، أو إدارة الإنترنت". ويواجه مفهوم حوكمة وإدارة
الإنترنت العديد من القضايا الشائكة، فأطراف المصلحة في حوكمة الإنترنت، من القطاع
الخاص والعام، تلعب دوراً هاماً في تحديد كل من هذه الأبعاد.
بالإضافة إلى أن لكل طرف من أطراف المصلحة
في حوكمة الإنترنت ثقافات مهنية متطورة وفريدة للغاية وقواسم مشتركة ومصالح مختلفة،
لكنهم يعملون بمعزل عن الآخر بالإضافة إلى تعدد لغات العمل التي تعكس الطبيعة العالمية
للمشكلات المتعلقة بالإنترنت.
فوفق بعض الإحصائيات، بلغ عدد مستخدمي الإنترنت
ما يقارب 2 مليار ونصف مستخدم يتكلمون العديد من اللغات المختلفة، ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ منهم لا يستطيعون
ﺍﻟﻘﺮﺍﺀﺓ ﺃﻭ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ بالإنجليزية، وﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮﻥ ﻟﻐﺎﺕ لا ﺗﻜﺘﺐ بالأحرف الإنجليزية.
فيما لا يزال 5 مليارات من الناس غير قادرين على
الحصول عليه، ولا ﺳﺒﻴﻞ لهم ﻟﻠﻮﺻﻮﻝ إلى ﻫﺬﻩ الأداة ﺍلمهمة ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﺍﻟﻨﻤﻮ ﺍلاﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﻭﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ
الاجتماعية.
في ﺩﻭﺭﺓ جمعية الإنترنت ﺑﺸﺄﻥ حوكمة الانترنت
في ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ (INET) ﺃﺑﻮﺟﺎ، بنيجريا ﻣﺎﻳﻮ/أيار
2007، ﺟﺮﻯ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﻋﻤﻮﻣﺎً ﺑﻀﺮﻭﺭﺓ ﻗﺪﺭﺓ ﺍﻟﻨﺎﺱ في جميع أنحاء العالم على اﺳﺘﺨﺪﺍﻡ الإنترنت
بلغاتهم، وأن ﺗﻌﺪﺩﻳﺔ ﺍﻟﻠﻐﺎﺕ في ﺍﻹﻧﺘﺮﻧﺖ ﺳتعمل ﻋﻠﻰ ﺟﻌﻞ مجتمع المعلومات مجتمعاً ﺷﺎﻣﻼً
ديمقراطياً ﺷﺮﻋﻴﺎً محترماً وتمكينياً على الصعيد المحلي.
إن حوكمة الإنترنت لا تحتمل وجهة نظر واحدة
ذات اتجاه واحد في التفكير، والتي لا تتسم بالمرونة الكافية، بل تستدعي إيجاد أدوات
معرفية جديدة تمكنها من فك خيوط هذا التعقيد وطرح رؤى ومبادئ إرشادية مشتركة.
"ويظل دمج الجوانب الفنية في حوكمة
الإنترنت في الجوانب السياسية من المسائل الأكثر تعقيداً، فالحلول الفنية ليست حيادية
بالمرة، وكل دعم فني تقابله مصالح فئة معينة، كما يقول (جوفان كورباليجا وادوارد جلبشتاين)
مؤلفا كتاب حوكمة الإنترنت".
ونتيجة لتلاشي الوحدة بين التكنولوجيا والسياسة،
ظهرت الحركات والدول التي تطالب بإصلاح منظومة الإنترنت، وهو ما أدى إلى إنشاء هيئة
الـ((ICANN الآيكان
في عام 1998، كمحاولة لإعادة التوازن المفقود بين هذين الجانبين.
ويثير مفهوم حوكمة الإنترنت جدلاً واسعاً
حول ضرورة تطوير العديد من النواحي المتعلقة بالأمور التقنية والفنية، من ضمنها تبادل
الاتصالات وتوزيع أرقام بروتوكولات الإنترنت وحماية الملكية الفكرية وتشجيع التجارة
الالكترونية.
وكانت القمة العالمية للإنترنت، والتي انعقدت
في ساوباولو 25 أبريل/نيسان 2014، في البرازيل قد أدانت التجسس الدولي عبر الشبكة العنكبوتية.
واعتبرت مراقبة البيانات الشخصية عملا يعاقب عليه القانون، وجاء في البيان الختامي
للقمة إن "المراقبة الجماعية والاعتباطية تقوض الثقة بالإنترنت، وإن جمع واستغلال
بيانات شخصية من جهات حكومية، أو غير حكومية، يجب أن يخضع للقوانين الدولية وحقوق الإنسان".
وتظل حماية الخصوصية وحرية التعبير وحق
امتلاك واستخدام شبكة الإنترنت من الحقوق التي تسعى منظمات المجتمع المدني لأجل إقرارها
في المفاوضات النهائية حول إدارة الإنترنت. وهذه الاحتياجات الملحة تتطلب مشاركة مستخدمي
الإنترنت من المنطقة العربية في النقاش الدولي القائم حول كيفية صياغة سياسات الإنترنت
مستقبلاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق