الجمعة، 9 يناير 2015

مآسي سياسية لأهل الكيمياء



  

        
                                                                  
                                

  بعد النكبة و المذبحة المروعة لحركة الاخوان المسلمين في سوريا في بداية الثمانينات من القرن الماضي اشتهرت مقولة مثيرة للجدل لمحدث العصر العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني حيث قال: (إن من السياسة ترك السياسة). و قبل ذلك بعقود طويلة أطلقها حاسمة ومدوية الأمام المصري محمد عبده عندما قال: (أعوذ بالله من السياسية من لفظها ومعناها و حروفها) و في رواية أخرى أن شدة حنقه منها وصلت لدرجة قوله (لعن الله ساس و يسوس و سائس و مسوس !!!). وهذا النوع من التحرز و التحوط السياسي ربما يستلهم أصوله من الحكمة العربية القديمة التي أبدع في توصيفها الشاعر العربي الكبير ابن الوردي عندما قال:
 
جانب السلطان وأحذر بأسه       لا تخاصم من إذا قال فعل
 
 لقد جال ببالي هذا الخاطر الكئيب مؤخراً ليس بسبب الفواجع السياسية التي عمت وطمت العالم العربي من الماء إلى الماء، و لكن ينضاف لذلك حالة الصدمة و الألم لخبر اعتقال زميل و عالم و مربي فاضل هو الدكتور بهجت الأناضولي و هو استاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة القاهرة و الأمين العام المساعد السابق لاتحاد الكيميائيين العرب و الذي تم اعتقاله مع آلاف من الأبرياء بتهم سياسية ملفقة من مثل التهم المعلبة الجاهزة (التحريض على ارتكاب أعمال عنف و شغب).  و بالرغم من أن الدكتور بهجت الأناضولي (الذي عرفته عن قرب عند عملنا سوياً في الأمانة العامة لاتحاد الكيميائيين العرب) لم يكن منخرطاً بشكل حقيقي في السياسة و كان متجهاً أكثر للجوانب العلمية و البحثية و الأعمال الاجتماعية التربوية و أنشطة خدمة المجتمع، حيث كان مقرر لجنة الزكاة لجمعية خيرية، و كذلك قام بالإشراف على مستشفى خيري بالقاهرة يساهم بشكل إغاثي في تقديم الرعاية الصحية لذوي الدخل المحدود. من هذا وذاك تبرز الحقيقة المزعجة و المؤلمة و التي تكشف أن مآسي وويلات السياسة قد تصيبك حتى و إن لم تزاحم أهل السياسة في سلطانهم و حتى و إن جانبتهم و ابتعدت عنهم طريقهم وفق وصية ابن الوردي الشعرية.
  
   وقديماً كان في الناس .. النكد
 كما هو متوقع فإن ضحايا السياسة في كل وادٍ و في كل بلد و في كل عصر و زمان لذا عزائنا للدكتور بهجت الأناضولي أنه لن يكون أول (وطبعا ليس آخر) كيميائي يتعرض لاضطهاد و تعسف أهل السياسة، فأسلافه من أهل صنعة الكيمياء الذين تعرضوا للفحات السياسة الحارقة كثر و الملفت للنظر أن العديد منهم من مشاهير و أبرز علماء الكيمياء. فمن ذلك مثلاً، نجد أن الشخصية الكيميائية العربية البارزة جابر بن حيان نجده و بسبب نقمة هارون الرشيد عليه (بسبب قربه من البرامكة الذين نكل بهم و نكبهم الرشيد) يهرب من بغداد إلى الكوفة و يعيش بها لعدة سنوات متخفياً و محتجباً عن الناس، حيث قاسى كثيراً و خلص من الموت مراراً.
   
 و أما الكيميائي و الطبيب المسلم الكبير أبو بكر الرازي فتعرض لمشكلة خطيرة مع حاكم خراسان المنصور بن اسحاق الذي عندما شك بأن الرازي قد يكون خدعة عندما أهدى له كتاب يثبت فيه صنعة السيمياء بتحويل المعادن إلى ذهب، و لهذا أمر الحاكم المنصور بن اسحاق بأن يضرب الرازي بالكتاب الذي ألفه على رأسه حتى يتقطع الكتاب مما تسبب في تعرض الرازي للعمى. و من علماء الكيمياء الذين تعرضوا للمخاطر و الأهوال بسبب السياسة نجد الاديب والكيميائي المسلم المعروف الطغرائي الذي قتل بأمر من السلطان السلجوقي محمود حاكم الموصل و ذلك بعد انتصاره على أخية السلطان مسعود بن محمد و الذي كان الطغرائي أحد وزرائه و رجال دولته.
  
   مقيوله من زمان (الحبس للجدعان)
 في العصور الحديثة و بسبب الحروب السياسية الطاحنة بين البلدان نجد أن ويلات السياسية بكل بساطة (و عدل) تشمل العلماء كما تشمل غيرهم من المطحونين من عامة الشعب. فهذا العالم البريطاني جيمس تشادويك Chadwick مكتشف النيترون (الحاصل على جائزة نوبل لعام 1935) عند اندلاع الحرب العلمية الأولى، اعتقلته السلطات الألمانية لمدة أربع سنوات تم احتجازه خلالهن في اسطبل للخيول. أما خلال سنوات الحرب العالمية الثانية فقد تعرض العالم الألماني اليهودي أوتو لوفي Otto Loewi (الحاصل على جائزة نوبل لعام 1936) و الكيميائي النرويجي أود هاسل Odd Hassel (الحاصل على جائزة نوبل لعام 1969) للاعتقال في معسكرات الاعتقال النازية. و على الجانب الآخر من طرف المعادلة السياسية نجد السلطات الغربية لدول الحلفاء تعتقل هي الأخرى بدورها خلال سنوات الحرب العالمية بعض كبار العلماء من معسكر الأعداء من أمثال الكيميائي النمساوي الأصل ماكس بيروتس Max Perutz (الحاصل علي جائزة نوبل لعام 1962) الذي عندما ارتحل إلى بريطانيا ليدرس درجة الدكتوراه في جامعة كيمبردج و كان ذلك في بدايات الحرب العالمية الثانية ثم سافر بعد ذلك إلى كندا تم اعتقاله لفترة من الزمن لمجرد لاشتباه السخيف به لأنه شخص أجنبي من دولة معادية. في حين أن الكيميائي الألماني أوتو هان Otto Hahn والحاصل على جائزة نوبل لعام 1944نظير أبحاثه العلمية الرائدة حول الانشطار النووي كان قد عمل في وحدة تطوير و إنتاج الأسلحة الكيميائية للجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، و لهذا وجدت بعض الشكوك أنه من المحتمل أن يكون قد تورط في المشاركة في المشروع الألماني النازي لإنتاج القنبلة الذرية و لهذا تم اعتقاله و ايقافه لفترة من الزمن من قبل البريطانيين. و من الكيميائيين الذين لهم أثر ملموس وتعرضوا للاعتقال للحبس من قبل الحلفاء نذكر الكيميائي التشيكي ألفرد بادر Alferd Bader مؤسس شركة Aldrich الكيميائية العريقة و الذي أعتقل في أوائل شبابه في بريطانيا ثم تم ترحيله إلى كندا حيث سجن مع آلاف المعتقلين في حصن عسكري.
  
   ممنوع من الصرف .. ممنوع من السفر
 وإذا كانت حالة المضايقة السياسية ضد العلماء من البلدان المعادية مفهومة من المنظور الأمني إلا أن الأمر البالغ الغرابة أن حالة الاضطهاد السياسي طالت حتى العلماء البارزين الذين يحمون جنسية دول الحلفاء نفسها. فبعد سنوات طويلة من نهاية الحرب قامت إدارة الهجرة الأمريكية باحتجاز العالمة الكيميائية الفرنسية إيرين Irene كوري بالرغم من شهرتها العلمية الدولية ليس فقط لأنها ابنة الأسطورة العلمية مدام كوري و لكن لأنها كذلك كانت هي بذاتها حاصلة على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1935 و بالرغم كذلك من حصول إيرين على تأشيرة سليمة وسارية المفعول لدخول أمريكا، و التهمة السخيفة لاعتقال إيرين كوري هو ميولها المتعاطفة مع الحركة الشيوعية حيث كانت تخطط لإجراء حملة جمع تبرعات للاجئين الاسبان. الطريف في الأمر أن إيرين كوري كانت قد تعرضت قبل ذلك و في أواخر الحرب العالمية الثانية للتوقيف على الحدود السويسرية الفرنسية حيث قامت سلطات الاحتلال النازي لفرنسا باعتقالها لعدة أيام مع مئات النازحين في معسكرات الاعتقال و عندما علم لاحقاً والي و حاكم المنطقة باعتقالها أمر بنقلها من المعتقل لكنها رفضت أن تنال معامله خاصة عن بقية المعتقلين و أصرت أن تبقى معهم حتى إطلاق سراحها و بهذا كان (الأجلاف) الأعداء النازيين أكثر نبلاً في التعامل معها من الحلفاء الأمريكان.
 
  وعلى ذكر تهمة التعاطف مع الشيوعية نجد وزارة الخارجية الأمريكية مرة أخرى تمنع شخصية علمية مرموقة مثل عالمة الكيمياء البريطانية دورثي هودجكن Dorothy Hodgkin (الحصالة على جائزة نوبل لعام 1964) من الحصول على تأشيرة الدخول إلى الأراضي الأمريكية لحضور اجتماع علمي عن تركيب البروتين. و سبب الشكوك الأمريكية حيال دورثي هودجكن أنها كانت من دعاة المنهج السلمي و اللا عنف و كانت شخصية مسالمة pacifist لدرجة أنها عارضت المشاركة في الحروب و بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت عضو مؤثر في منظمة العلم من أجل السلام، و لقد كان لها اهتمام خاص برعاية العلماء من الدول التي تعاني من الحصار و المضايقة من قبل الولايات المتحدة ولهذا كانت تعتني ببعض العلماء من الاتحاد السوفيتي و الصين و فيتنام. بمعرفة هذا النضال السياسي لدورثي هودجكن و بمعرفة أن كلاً من زوجها و كذلك مشرفها على رسالة الدكتوراه كانا من أعضاء الحزب الشيوعي في بريطانيا لهذا لا غرابة إذن أن تكون شخصية علمية غير مرحب بها على الاطلاق لدخول الأراضي الأمريكية، كما أنها ظلت لفترة حوالي ثلاثين سنة يتوجب عليها أن تحصل على إذن دخول خاص من قبل النائب العام الأمريكي و كأنها بذلك من عتاة مجرمي المافيا أو دهاة الارهابيين.
 
 و المخجل و المعيب في حق السياسة الأمريكية أنه بنفس التهمة السخيفة بالتعاطف مع الشيوعية قامت وزارة الخارجية الأمريكية بسحب جواز السفر لأحد أهم علماء الكيمياء الأمريكيان على الاطلاق في القرن العشرين و هو لينوس باولنغ Linus  Pauling و الذي استمر منعه من السفر لعدة سنوات و لم يلغى إلا تحت ضغط أن باولنغ حصل في عام 1954 على جائزة نوبل في الكيمياء و كان لابد من حضوره حفل استلام هذه الجائزة المرموقة عالمياً، ولهذا شعرت الحكومة الأمريكية أن استمرار منعه من السفر حتى لهذا الحدث العلمي سوف يسبب لها فضيحة و كارثة شعبية. الجدير بالذكر أن لينوس باولنغ هو الشخص الوحيد في التاريخ الذي حصل على جائزة نوبل مرتين و بشكل منفرد مرة في الكيمياء و مرة في السلام بسبب جهوده و حملاته الداعية لفرض رقابة دولية على الأسلحة الذرية. و كإشارة إلى الأثر السياسي الكبير الذي حصلت عليه حملته العالمية المناهضة لإجراء التجارب النووية أنه تم تحديد اليوم الذي بدأ فيه سريان اتفاق حظر التجارب النووية بنفس اليوم الذي حصل فيه باولنغ على جائزة نوبل للسلام و ذلك في العاشر من شهر أكتوبر لعام 1962.
  
    الفوز بجائزة نوبل مع وقف التنفيذ
 قد يكون الكيميائي الأمريكي لينوس باولنغ محظوظاً بعدم تفاقم المشاكل السياسية لدرجة أن يتم حرمانه من حفل استلام جائزة نوبل، لكن العديد من العلماء حال الاضطهاد السياسي لهم دون استمتاعهم الكامل بأهم لحظات عمرهم: و هي (لحظة استلام جائزة نوبل). هذا بالضبط ما حصل للكيميائي الألماني أدولف بوتنانت Adolf Butenandt الذي بالرغم من حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1939 لأبحاثه حول الهرمونات الجنسية إلا أنه منع من قبل النظام النازي الألماني (مع علماء آخرين حصلوا على هذه الجائزة في الأفرع العلمية الأخرى) من قبول و استلام هذه الجائزة المرموقة لأن (سميّه) أدولف هتلر غضب بشدة عندما تم منح جائزة نوبل للسلام لكاتب يهودي سجن في معسكرات الاعتقال النازية و تعرض للتعذيب و نجى من المعتقل و من ثمّ تمّ منحه جائزة نوبل للسلام و لهذا قرر هتلر منع أي عالم أو أديب ألماني من قبول جائزة نوبل. نفس هذه المأساة العلمية تكررت مع الكيميائي النمساوي ريتشارد كوهن Richard Kuhn الذي منعته هو الآخر السلطات النازية من قبول جائزة نوبل في الكيمياء التي نالها عام 1938 نظير أبحاثه عن الفيتامينات. الجدير بالذكر أن كلا هذين الكيميائيين المحرومين من الجائزة سوف يستلامان هذه الجائزة العريقة بأثر رجعي بعد انتهاء سنوات الحرب و هو ما تم لأدولف بوتنانت في عام 1947 ولريتشارد كوهن في عام 1949. اللافت للأمر أن لؤم أهل السياسة و اضطهادهم لأهل العلم و الكيمياء بحرمانهم من تسلم هذه الجائزة الأسطورية لم يتوقف على النازيين، بل أن البريطانيين ارتكبوا نفس هذه الخطيئة الشنيعة حيث أنه نتيجة لاعتقالهم عالم الكيمياء الألماني أتو هان الذي سبق أن ذكرنا أنه حصل علي جائزة نوبل لعام 1944 تسببوا في حرمانه من استلام جائزة نوبل. على كل حال نجد علماء آخرين لم يستلموا هذه الجائزة ليس بسبب الاعتقال أو المنع و لكن بكل بساطة أنه تعذر عليهم السفر إلى إستكهولم عاصمة السويد أثناء سنوات الحرب و هذا ما حصل تماماً مع عالم الكيمياء الألماني ريتشارد فيلشتيتر Willstatter (الحاصل علي نوبل لعام 1915) التي حالت فوضى وويلات الحرب العالمية الأولى دون امكانية سفره (على كل حال سوف يستلمها لاحقا في عام 1920) بينما الحرب الطاحنة و الضروس أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية تسببت هي الأخرى بدورها في عدم تمكن الكيمياء الكرواتي ليوبولد ريزيكا Leopold Ruzicka من السفر لاستلام جائزته التي حصل عليها في عام 1943.
 
   خسارة حربية فادحة .. مصرع العلماء !!
 صحيح أن شؤم السياسة أفرزت حروب عالمية شعواء أحرقت الأخضر و اليابس وتسببت في حرمان بعض العلماء من التمتع بلحظة استلام جوائزهم المرموقة، لكن هذه الضريبة السياسية و المصيبة العلمية لا تكاد تذكر بالمقارنة مع بعض المصائب و المآسي التي أصابت علماء آخرين بسبب هذه الحروب الكونية الملعونة. و من أبرز ذلك أن بعض العلماء فقدوا أرواحهم وقتلوا في ساحات المعارك، و هو ما حصل بالضبط مع العالم البريطاني الشاب هنري موزيلي Moseley ذو الأثر الكبير في علم  الكيمياء باقتراح استخدام العدد الذري بدلاً من عدد الكتلة في ترتيب عناصر الجدول الذري. و حدث في أثناء اندلاع الحرب العالمية الأولى أن قام الشاب موزيلي بالتطوع في الجيش البريطاني فكان أن لقي مصرعه نتيجة رصاصة قناص اخترقت رأسه عندما كان يشارك في معركة في إحدى المدن الساحلية التركية و هو بعد في سن الثامنة و العشرين من العمر مما حدا بالحكومة البريطانية لاحقاً القيام بإصدار قانون يعفي العلماء من الخدمة العسكرية. و في نفس النسق نجد أن مصرع الكيميائي الألماني إدوارد بخنر Buchner الحاصل علي جائزة نوبل في الكيمياء لعالم 1907 حصل بعد تطوعه هو الآخر للقتال في صفوف الجيش الألماني مما أنتهى بتعرضه لإصابة قاتلة أثناء مشاركته في القتال في رومانيا أثناء الحرب العالمية الأولى. أما صريع علم الكيمياء الأشهر بسبب السياسة فهو بلا شك عالم الكيمياء الفرنسي لافوازية حيث كان أحد أشهر ضحايا الثورة الفرنسية التي اسقطت مقصلتها الشهيرة ليس فقط رأس الامبراطور لويس السادس عشر و زوجته ماري أنطوانيت بل كذلك المئات من أركان و أعوان النظام الملكي الساقط و الذين كان من جملتهم مدير شركة جني و تحصيل الضرائب و الذي كان صاحبنا لافوازية سيء الحظ وشهيد العلم كما تصفه المراجع التاريخية.
 
 ليس جميع العلماء تمثلت مصائبهم الشخصية من جراء السياسة في إزهاق أرواحهم فالبعض منهم تمثلت الفاجعة التي نزلت به في فقد بعض أفراد أسرته جراء الحروب السياسة الطاحنة. فهذا الكيميائي الألماني إميل فيشر Emil Fischer ثاني شخص في التاريخ يحصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1902 يخسر اثنين من أبنائه الثلاثة نتيجة المعارك الطاحنة خلال الحرب العالمية الأولى مما أصابه بالإحباط و الاضطراب النفسي الحاد الذي انتهي به في النهاية على الاقدام على الانتحار. و كذلك عالم الكيمياء الألماني البارز نيرنست Nernst  (الحاصل علي جائزة نوبل عام 1920) خسر هو الآخر اثنين من أبنائه اللذين قتلا جراء الحرب العالمية الأولى. و نفس هذه الفاجعة الأسرية تكررت مع الكيميائي الألماني البالغ الشهرة في الكيمياء العضوية اوتو ديلز Otto Diels الشهير بتفاعله المكتشف مع تلميذة كورت ألدر Kurt Alder (تفاعل ديلز-ألدر) و من ثمّ حصلا على معاً علي جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1950، فلقد خسر الكيميائي ديلز اثنين من أبنائه صرعى المعارك الحربية في الحرب العالمية الثانية. كان وقع الصاعقة على الكيميائي الفرنسي البارز لويس باستور جراء مقتل ولده الوحيد هائلاً و ذلك بعد سلسة من الفواجع و المآسي المتمثلة في وفاة بناته الثلاث و هنّ صغاراً لذا تضاعفت مصيبته العائلية بمقتل ابنه الوحيد المتبقي له. لقد فقد في احدى المعارك التي انهزم فيها الجيش الفرنسي على يد الألمان و لهذا لم يغفر باستور للألمان أبداً تلك الفجيعة النفسية التي تسببوا له بها لدرجة أنه رفض أن يقبل الوسام الذي رغبت الحكومة الألمانية ان تمنحه له اعترافاً بإنجازاته العلمية.
 
 و إذا كان بعض العلماء فقدوا ابنائهم كنتيجة للآثار السياسية المريرة تعرضت شريحة أخرى من العلماء لمصيبة فقد الآباء، وهو ما حصل مع الكيميائي البولندي الأصل روالد هوفمان Roald Hofmann الحاصل على نوبل في عام 1981 و الذي ولد قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بسنتين و عندما احتل الألمان موطنه عام 1941 قاموا بسجن آلاف اليهود البولنديين في معسكر اعتقال و كان من ضمنهم الطفل روالد  هوفمان ذو الأربع سنوات مع والديه، و بعد سنتين من الاعتقال نجح أبوه في تهريب ولده الطفل و زوجته إلى خارج المخيم بينما تعرض الأب هوفمان للإعدام لمحاولته تنظيم عملية هروب أخرى من المخيم. كيميائي آخر شهير واجه طفولة بائسة بفقد الأب بسبب الاضطهاد السياسي و تلك كانت حالة الكيميائي الفرنسي الشهير جوزيف جاي لوساك Gay-Lussac الذي كان في حدود الحادية عشر من العمر عندما اندلعت الثورة الفرنسية و قد أعتقل والده و سجن لعدة سنوات لاقت فيها أسرته الكثير من الصعاب و المشاق.

    الحرب .. خراب بيوت و خراب مختبرات
 كما هو معلوم من العدد الهائل من عشرات الملايين من ضحايا الحروب أنه لا يشترط أن يشارك الشخص في القتال بشكل مباشر لتتسبب الحرب في مصرعه و مقتله، حيث ينتج غالباً مقتل العشرات أو حتى المئات بعد كل قصف مدفعي أو غارات جوية على المناطق السكنية، و في أثناء الحرب العالمية الثانية تسبب القصف الجوي في إزالة و تدمير مدن ألمانية و بريطانية بكاملها. و على ذكر الدمار الشامل للمباني و المنشآت العمرانية ليس من المستغرب أن يكون بينها منازل أو حتى مختبرات بعض مشاهير العلماء فجميع الرؤوس تحت مقصلة الحرب متساوية. لقد كان التدمير الشامل هو مصير منزل عالم الكيمياء الألماني هانز فيشر Hans Fischer (الحاصل علي جائزة نوبل لعام 1930) و مما زاد في مأساته و معاناته الشخصية بسبب الحرب أن تسبب القصف الجوي للطائرات الحربية لقوات الحلفاء في تدمير مختبره الكيميائي بجامعة ميونخ و تحت ضغط هذه الفواجع و التدمير و الخراب لمنزله و مختبره نجده يقدم بعد فترة زمنية قصيرة على الانتحار كما حصل بالضبط مع العالم الكيميائي الألماني إميل فيشر السابق الذكر. و ممن خسر مختبره العلمي نتيجة تدميره بسبب القصف الجوي الغاشم نجد كذلك عالم الكيمياء الألماني اوتو ديلز Otto Diels الشهير الذي فقد هو الآخر نتيجة القصف الجائر مختبره الكيميائي (الذي توصل فيه لاكتشاف التفاعل الشهير ديلز – ألدر الذي منحه جائزة نوبل) في جامعة كيل الألمانية و إن لم يتسبب ذلك في انتحاره و لكنه تسبب في تقاعده النهائي من الأبحاث العلمية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية. و من الأمثلة الاضافية لخسائر علماء الكيمياء في دول المحور (ألمانيا بالذات) جراء قصف طيران قوات الحلفاء لمدينة برلين أن تعرض مقر الجمعية الكيميائية الألمانية لتدمير شبه كامل. كما تم أثناء قصف الحلفاء للمدن الألمانية تدمير تمثال الكيميائي الألماني الشهير جوستاس ليبيغ Liebig الذي كان يقف أمام مختبر ليبيغ في جامعة مدينة جيسن Geissen و هو المختبر الذي خرج مئات الكيميائيين البارزين و ربما يعد أهم مختبر على الاطلاق في تاريخ تعليم الكيمياء.
 
 تلك كانت خسائر علماء الكيمياء التابعين لدول المحور أما علماء الكيمياء التابعين لدول الحلفاء فأشهر من تعرض مختبره للتدمير بسبب القصف الجوي الألماني للمدن البريطانية نجد الكيميائي الصهيوني حاييم وايزمان Chaim Weizmann (ذو الدور البارز في حصول اليهود علي وعد بلفور المشؤوم كما أنه كان أول رئيس للكيان الصهيوني) الذي عاش و عمل لفترة طويلة في بريطانيا و الذي تعرض مختبره في لندن للقصف و التدمير أثناء الغارات النازية الجوية في بدايات الحرب العالمية الثانية و لعل من المناسب كذلك أن نذكر أنه بالإضافة لفقدان وايزمان لمختبره أثناء الحرب خسر كذلك ولده الطيار الذي اسقطت طائرته أثناء القتال على مياه المحيط الأطلسي القريبة من السواحل الفرنسية و الاسبانية. و على ذكر فرنسا و إسبانيا و تدمير المختبرات الكيميائية نجد أن من الطريف أن هذه التشكيلة تشترك في قصة حياة واحد من أشهر علماء الكيمياء في القرن الثامن عشر ألا و هو الكيميائي الفرنسي الأصل جوزيف بروست Proust الذي توصل لاكتشافه التاريخي عن قانون النسب الثابتة اثناء إقامته في إسبانيا عندما قامت الحكومة الاسبانية باستقطاب هذا الكيميائي الفرنسي إلى أراضيها ليقوم بتطوير الأبحاث الكيميائية ذات الطابع الصناعي. و لكن عندما وقعت إسبانيا تحت الاحتلال الفرنسي في عام 1808 داهمت قوات نابليون العاصمة مدريد و عاثت في المدينة خراباً و دماراً و هو الدمار الذي طال كذلك مختبر بروست الكيميائي المجهز جيداً. و كردة فعل غاضبة من جوزيف بروست بسبب الدمار و السلب لمختبره من قبل قوات نابليون الغازية نجده لاحقاً يرفض أن يتعاون مع نابليون عندما طلب منه بأن يترأس و يشرف على تشييد المصنع المخصص لاستخلاص سكر العنب كتعويض عن السكر المكرر الذي قطع خطوط إمداده الحصاري البحري البريطاني. و من علماء الكيمياء القدامى الذين فقدوا مختبراتهم بسبب شؤم السياسة نذكر عالم الكيمياء البريطاني الشهير جوزيف بريستلي Priestley مكتشف عنصر الاوكسجين الذي تعرض في عام 1791 لهجوم همجي من دهماء الناس نتج عنه إحراق الغوغاء لمنزله و مختبره و من ثمّ أجبر على الهروب من مدينة برمنجهام و مغادرة بريطانيا برمتها إلى أمريكا و ذلك بسبب تعاطفه و دعمه للثورة الأمريكية و المنشقة عن الإمبراطورية الانجليزية حيث كان يدعم رغبات أصحاب المستعمرات البريطانية في الاستقلال عن التاج البريطاني.
 

   تغريبة بني هلال الكيميائية
 على ذكر اضطرار بعض العلماء للهروب و النزوح من بلده إلي بلد المهجر بسبب الاضطهاد السياسي و الحروب الطاحنة لا يتسع الوقت هنا لاستعراض قصص و أخبار فرار المئات من أبرز العلماء اليهود و غير اليهود من ألمانيا النازية و من بلدان أوروبا الشرقية و لجوئهم إلى بريطانيا و أمريكا، لكن سوف نكتفي بذكر الأخبار الواردة في ذلك مما له علاقة برجال علم الكيمياء البارزين. حيث كان في جملة الفارين (بعلمهم) الكيميائي الهولندي بيتر ديباي Debye الحاصل على نوبل في الكيمياء عام 1936 و الكيميائي البولندي الأصل روالد هوفمان Roald Hofmann الحاصل على نوبل في عام 1981 و زميله الكيميائي النمساوي كارل دجيراسي هو Carl Djerassi المشهور بأبو (مخترع) حبوب منع الحمل (The Bill). و كذلك أجبر على الهجرة الكيميائي المجري الأصل جورج أولاه Olah الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء العضوية عام 1994 و الكيميائي الألماني ريتشارد فيلشتيتر Willstatter الحاصل علي نوبل لعام 1915 . و من ضحايا الاغتراب عن الأوطان يعد منهم الكيميائي الألماني الشهير في علم الكيمياء الحيوية هانز كربس Krebs الحاصل على جائزة نوبل عام 1953 و زميله الكيميائي الألماني فريتز ليبمان Lipmann الذي شاركه في الحصول على جائزة نوبل في نفس سنة 1953 نظير ابحاثه الرائدة حول الأنزيمات. و منهم كذلك الكيميائي المجري الأصل جورج هيفسي Hevesy الحاصل على جائزة نوبل عام 1943 و أما مواطنه الكيميائي المجري الأصل جون بولاني John Polanyi الحاصل على نوبل عام 1986 فيمتاز بتعرضه للترحيل و التهجير القسري مرتين أولاهما في طفولته عندما هاجر مع أسرته من برلين إلى بريطانيا و الثانية في شبابه حيث هاجر بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية من بريطانيا إلى كندا.
 
    عزاء أهل الأدب لمنكوبي أهل الكيمياء
 وختاماً كلمتي لأستاذي و زميلي القدير الدكتور بهجت الأناضولي نموذج أهل علم الكيمياء الذي تعرض للاضطهاد و طغيان أهل السياسة، أن عليك بالصبر  والاحتساب على صعاب الحياه و وعثائها، و إن شاء الله يعجل الله بتفريج كربتكم و أطلاق سراحكم و ساعتها سوف نردد إن شاء الله سوياً الأبيات الخالدة للشاعر و السياسي اليمني محمد الزبيري.
 
خرجنا من السجن شم الأنوف
كما تخرج الأسد من غابها
نمر على شفرات السيوف
ونأتي المنية من بابها
و نأبى الحياة، إذا دنست
بعسف الطغاة و ارهابها
ستعلم أمتنا أننا
ركبنا الخطوب حناناً بها
فإن نحن فزنا فيا طالما
تذل الصعاب لطلابها
و إن نلق حتفاً فيا حبذا
المنايا... تجيء لخطابها
أنفنا الإقامة في أمة
تداس بأقدام أربابها
و سرنا لنفلت من خزيها
كراماً، ونخلص من عابها
      
 وقبل ذلك أطلقها قاطعة وفاصلة الشاعر العربي القديم علي بن الجهم الذي لم يجد في تعرض الكريم للسجن والحبس من عيب أو منقصة:
     
قالَت حُبِستَ فَقُلتُ لَيسَ بِضائِرٍ
حَبسي وَأَيُّ مُهَنَّدٍ لا يُغمَدُ
وَلِكُلِّ حالٍ مُعقِبٌ وَلَرُبَّما
أَجلى لَكَ المَكروهُ عَمّا يُحمَدُ
وَالحَبسُ ما لَم تَغشَهُ لِدَنِيَّةٍ
شَنعاءَ نِعمَ المَنزِلُ المُتَوَرَّدُ
بَيتٌ يُجَدِّدُ لِلكَريمِ كَرامَةً
وَيُزارُ فيهِ وَلا يَزورُ وَيُحفَدُ
وَاللَهُ بالِغُ أَمرِهِ في خَلقِهِ
وَإِلَيهِ مَصدَرُنا غَداً وَالمَورِدُ
وَلَئِن مَضَيتُ لَقَلَّما يَبقى الَّذي
قَد كادَني وَلَيَجمَعَنّا المَوعِدُ
 
   
           
                       

  أ.د/ احمد بن حامد الغامدي
  قسم الكيمياء – جامعة الملك سعود – الرياض
  الأمين العام السابق لإتحاد الكيميائيين العرب
  البريد الالكتروني: ahalgamdy@gmail.com

ليست هناك تعليقات: