الخميس، 23 أكتوبر 2014

ماكينتوش وسط زبالة!


ماكينتوش وسط زبالة!
حبيب سروري * - العربي الجديد 

حبيب سروري، يتبع هواجسه، باحثًاً في ملفات كومبيوتر مرمي
رمقتُ، وأنا أرمي منديلاً في زبالةٍ باريسيّة وسط شارع، ماكينتوشاً محمولاً صغير الحجم، فضيّ الإطار، أنيقاً جدّاً! استغربتُ، واصلتُ مسيري، ثم عدتُ القهقرى بلا وعي لآخذهُ وأضعهُ في حقيبة ظهري. ليس لأني احتاجه، لكن، ربما، لأنها أوّل مرّة أرى كمبيوتراً في زبالة! ركنتُه في المساء. ثمّ قرّرتُ بفضولٍ فاتر ربطَهُ بشبكة كمبيوترات لِفحصه. اكتشفتُ أنه ما زال يشتغل، وأن صاحبه لم يمسح ملفّاته، وأنها غابةٌ عامرة بمئات الجيجابايتات. تمكّنتُ، بعد جهدٍ مضنٍ، من الوصول بطريقةٍ ما إلى ملفّاته من دون الحاجة إلى كلمة السرّ! راودتني رغبةٌ تلصّصية عنيفة في التجوّل في الغابة. كبحتُ رغبتي الآثمة بصعوبة. لكني فضّلتُ -لا أدري لماذا- أن أنسخ مجموع هذه الملفات في جهازٍ خارجي للاحتفاظ بها فيما إذا تعطّل الكمبيوتر كليّة.


ثمّ حامت في رأسي أسئلة مرتعشة: أيحقُّ لي أخلاقياً تصفُّحُ هذه الملفات؟ لمَ لا، وليس لي في ذلك أدنى غرض، غير إسكات حبِّ استطلاعٍ جامح؟ أيختلفُ تصفحي لها عن تجسّس كبار شركات الكمبيوتر على أجهزتنا عند ربطها بالإنترنت؟ إذ لا يوجد تقنيّاً ما يمنعها اليوم عن ذلك. بل أكثر: غرستْ تلك الشركات، في كل كومبيوترٍ صُنِع بعد أحداث ١١ سبتمبر، برمجيات تُفهرس محتويات ملفّاته، بحيث يمكن عند البحث عن كلمةٍ ما، مثل "أحبك" أو "القاعدة"، (من قبل المستخدِم، أو سرّاً من قبل جاسوسٍ رقمي)، الوصولُ بشكل مباشر لكلّ الملفّات التي تحوي الكلمة. بل أكثر أيضاً: يحقّ لها الآن وقد دخلنا عصر البيانات العملاقة، Big Data الشفطَ اليومي لكلّ ما نترك من آثارٍ ونصوصٍ وكتابات: تعليقاتنا، منشورات الفيسبوك، تويتر، ما نبحث عنه في غوغل، أغانينا المفضّلة، أصدقاؤنا، ما نشتريه بالبطاقة المصرفيّة، ومن ثمّ أرشفته في مستودعات ضخمة من الكمبيوترات، فتقديمه لبرمجيّات ذكيّة لتحليله. وذلك لدراسة شخصيّتنا وميولنا وهوّيتنا أي الـ D.N.A الرقميّة الخاصّة بنا، لترسم بذلك جينومنا الرقمي! كلّ ذلك بغرض معرفة آلية عمل عصبونات أدمغتنا، وتوجيه رغباتنا الاستهلاكية، والتأثير مستقبلاً على سلوكنا في كل مجالات الحياة والسيطرة عليها.
ثمّ خطرت ببالي أفكارٌ عابثة لتبرير رغبتي التلصّصية: من يدري لعلّ من رمى الكمبيوتر في الزبالة انتحر بعد ذلك، أوقُتِل؛ وثمّة ربما ملفّات في كمبيوتره ستكشف سرّ رميه على قارعة الطريق، مع كلِّ هذا الكمّ الزاخر من الملفات والإيميلات الشخصية! ألا يلزم على الأقل أن أعرف اسم صاحب هذا الكمبيوتر من قراءة أحد إيميلاته فقط من دون فتح ملفّاته، لأتابعه بعد ذلك على الإنترنت علّي أفكّك هذا السر؟
فتحتُ أحد الإيميلات. مفاجأة! أعرف صاحب الكمبيوتر: ف.ج! كان طالبًا معي في الماجيستر في جامعة باريس، في ١٩٨٣!
كنّا ٢٥ طالبًا، في ماجستير نخبَويٍّ. كنّا حقل تجارب لِعِلم جديد: علم الكمبيوتر. مُنحنا بفضل ذلك، إمكانيات اتصال وشغل استثنائيين على شبكات كمبيوترات وطنيّة ودوليّة تجريبية، سبقتْ بعقدٍ إنترنتَ اليوم المفتوحَ للجميع، وهيّأتْ له.
كان ف.ج. أكثرنا إدمانًا على عشق البرمجة، سريع التذمّر والملل عندما لا ينظر إلى شاشة، لا يميل إلى الاختلاط بالآخرين، ولا يهتم بمظهره كثيرًا. وكان له كمبيوتره الشخصي، الذي يأتي به إلى الصفّ مربوطًا على ظهره بحبال! لا أنسى منظرَهُ وهو يعبر شوارع باريسية وعلى ظهره دبٌّ قطبيٌّ صغير إذ إن كمبيوترات بداية الثمانينات كانت ضخمةً وثقيلةً.
كنّا نمتلك جميعًا حسابات شخصيّة على حاسوبٍ عملاقٍ بعيد، في مدينة بوردو الفرنسية، نرتبط به. ونعمل طوال الليل؛ كلٌّ على حسابه ومشاريعه، ويترك ما شاء منها مفتوحًا للآخرين، للاطّلاع والاستفادة والاقتباس أو النقد. تفاعلٌ وديٌّ وعمليٌّ في فضاءٍ رقميٍّ إنسانيٍّ مشتركٍ حرّ، وسعادة من يشعر أنه وُلِدَ في الزمن المناسب ليكون على موعدٍ مع ولادة علمٍ جديدٍ واعد.
كنتُ أدخل في حساب ف.ج. بانتظام. أتابع تنظيمَه لِشجرة ملفّاته و"أتلصّص" على كلّ أعماله المفتوحة للجميع. أغرقُ في قراءة البرمجيات التي يكتبها: أنيقة بشكلٍ استثنائي، ذات جَمالٍ مطلق. أتناقش معه في منتديات فضائنا الإلكتروني حول بعضها. ولاحظتُ: كان يميل لاستخدام لغات الكمبيوتر الأكثر تعبيرًا وأرستقراطيةً، والنابعة من علوم الرياضيات والذكاء الاصطناعي. يُطوِّعها لتصميم نصوصِ برمجيات صلصاليةٍ شديدةِ التكثيف والتجريد، قابلةٍ لأن تُكيَّف وتُستخدم في مجالات شتّى لا يربطها رابط أحياناً. كنتُ أشعر بسعادةٍ خاصّة وأنا أقرؤها: نقيّةً، أنيقةً، شفّافة رقراقة. كنتُ كمن يقرأ نصًّا أدبيًّا، ملحمةً شعريّة!.صرتُ قادراً على تمييز أسلوبه الجماليّ الفريد في كتابة البرمجيات من بين مليون أسلوب.
كان يتركُ أجندتَه اليوميّة في ملفٍ مكشوف، وقسطاً من مذكراته. استغربتُ كثيراً تركها هكذا في العراء للعامّة من سكّان الحاسوب. وقعَتْ عيناي عليها مصادفةً، لكني كنتُ أمنع نفسي بصعوبة من قراءتها، وإن شعرتُ من نكهةِ شذرات بعضِها أن حياة ف.ج. ليست عاديّة. غامضةٌ وغريبةٌ جدّاً.
اختفى ف.ج. بعد الماجستير، ولم أعرف عنه شيئًا، إلا ما قاله لي زميلٌ قديمٌ: يسافر ف.ج. من بلدٍ إلى بلد، يعيش وحيداً، متنقّلاً بين المقاهي والطرقات والفنادق. يضع مجانًا بين آن وآخر برمجيّات ترفيهيّة صغيرة على الإنترنت، لتكون في متناول الجميع، أو يضع أخرى مهنيّة، يبيعها لِتسمح له بعيش حياة بوهيميّة حرّة، يطوف فيها العالم، ترافقه حقيبةٌ شخصية وكمبيوتر محمول!.
اجتاحتني في منتصف الليل رغبةٌ شيطانية زرقاء داكنة، في الغوص في ملفّاته التي نسختُها من الماكينتوش المرمي وسْط زبالة. أوّل ما أثارني وأنا أتصفّح خارطة قارّات ملفّاته، حرصه على أرشفة كلِّ يوميات حياته، بكلِّ تفاصيلها، منذ بدء الثمانينات من القرن المنصرم. فوجدتُ تلك الشذرات التي وقعَتْ عليها عيناي مصادفةً، في حاسوب بوردو العملاق أثناء سنة الماجستير! كلُّ إيميلاته وكلُّ ملفاته، كلُّ حركاته وسكناته وخواطره، مؤرشفة بشكلٍ مذهلِ التنظيم. غصتُ بلا وعي في هذه الغابة، غرقتُ فيها كما لو كنتُ أقرأ رواية، لم أتوقف عن عبورها وعن التسكُّعِ فيها، قبل أن أكتشف فجأةً تفسيراً لسرٍّ جوهريٍّ حميم في صميم حياتي الخاصّة، أهمِّ أسرارها إطلاقًا .
د:حبيب سروري
بروفيسور في علوم الكمبيوتر وروائي يمني يعيش ويعمل حالياً في فرنسا.

ليست هناك تعليقات: