الجمعة، 12 مارس 2010

استلهام الثقافة العلمية في الإبداع الأدبي.. تجربة خاصة


استلهام الثقافة العلمية في الإبداع الأدبي.. تجربة خاصة

بقلم : الدكتور محمد المخزنجي



اندهشوا، تنتعشوا. كان ذلك هو شعاري وأنا أكتب للصحافة المستقلة في مصر زاوية أسبوعية عنوانها «مساحة للدهشة»، والتي استمرت عاما كاملا من النجاح حتى نال منها السأم، فانسحبت. لكن البحث عن الدهشة والمدهش لم يختف، بل غير موقعه فقط، لأن الدهشة بالنسبة لي ليست أول الحكمة، كما في القول المأثور، بل هي نوع من شحن طاقة الحياة، والتي كثيرا ما تعبر عن نفسها بحماقة الفرح، ولعل هذه الحماقة تحديدا هي التي تبدأ الطريق إلى الحكمة، تبعا للمفارقة التي تقول إن مواجهة الجنون تستدعي التعقُّل.

أظن أن إكسير حياتي كلها كان هذا المزيج السحري الشفاف الذي تلخصه الدهشة، في المدرسة الابتدائية كان أحد مدرسينا الرائعين يسميني «المندهش»، لأنني كنت شاردا دائما، وبعيون مفتوحة أطل على ما يحدث خارج الفصل، عبر النافذة التي كنت أحارب للجلوس إلى جوارها، في الصفوف الخلفية. كنت أقطف دهشتي من سحابة عابرة تتشكل في صورة سفينة، سفينة تسبح في السماء، أو عصفور يتقافز بدوافع سرية من غصن إلى غصن على شجرة في الفناء، أو قطة تطارد فراشة على السور.

كان ذلك يشكل لي مآزق متواصلة، أقلها أن كثيرين ظلوا يعتقدون إنني لا أسمع، لأنهم يمعنون في ندائي ولا أجيب، وكانوا لايدركون أنني تائه في عالم مواز أبحث عن أكسير الدهشة.

مصادر عديدة كانت تتيح لي الحصول على هذا الأكسير، بعضها شديد الخطورة، ولا يتناسب أبدا مع ما يبدو على مظهري الهادئ. لكن مع تساحب السنين أو فرارها، لم يعد احتمال المخاطر واردا، كما أن زحام العالم، المحيط بي، والمتاح، لم يعد واعدا بكثرة المدهشات. نعم كانت هناك الغرائب، بل الكثير جدا من الغرائب تنمو بسرعة وتفاقم توالد الفطر، في حياتنا العربية، كما في حياة العالم، لكن الغرائب، والغريب، والاستغراب، كان شيئا نقيضا تماما لمطلب روحي من .. الدهشة .

لكن الله كان رحيما بي دائما ولايزال، شكرا لله، فقد منحني مع العمر مصادر للدهشة لاتتطلب مخاطر المغامرة، ولا شدائد السعي العضلي، إنه تامل العالم الواسع، عبر منظار مُقرِّب اسمه العلم، بل الثقافة العلمية تحديدا، العالم بحيواناته ونباتاته، بخلاياه ونجومه، بجسيماته متناهية الصغر في قلب الذرة، وأجسامه متنامية الكِبَر من الفيل الإفريقي حتى جبل إفرست .

العلم لم يعد شيئا يوحي بالحيادية والبرودة، ويبدو أبعد ما يكون عن ساحة تتطلب الدفء والحميمية، ساحة الإبداع، والإبداع الأدبي خصوصا بالنسبة لي. العلم بات دافئا وحميما إلى درجة تحريك القلب، هكذا أرى مسألة فارقة بين الموت الطوعي للخلايا الحية السوية، والموت القسري والبشع لخلايا السرطان القاتلة والأنانية والشرهة في طلب الخلود. معنى قادني لكتابة قصة - لم تصدر في كتاب بعد - اسمها «حكاية سرطان». وبنفس الطريقة من اقتناص الدهشة، رأيت القدرة العجيبة لرذاذ الصوت الجماعي الهائل، للإشعاع بموجات فوق صوتية وتحت صوتية قادرة على تقشير أصباغ الزيف في نظم الاستبداد إلى درجة المسخرة، ومن ثم الإزاحة، في قصة اشتهرت كثيرا في مصر عنوانها «زوموا»، وهي أيضا لم تُنشَر بعد في كتاب، لكنني ضبطتها تتجول في الفضاء الرقمي للإنترنت

أما في الكتب، وأنا أصر أن أسمي ما أنشره «كتبا قصصية» لامجموعات قصصية - لأسباب تتعلق بوحدة التشكيل أو الجوهر أو كليهما في كل كتاب - فإن الدهشة الناتجة من المعايشة الحية والتدقيق في هذه المعايشة بمنظار العلم، أهدتني كتبا نشرتُها، وكتبا في الطريق. علم سلوك الحيوان المقارن (الايثولوجي) ممزوجا بمشاهداتي في غابات ومحميات الكثير من بقاع العالم، هما مادة البناء في كتاب «حيوانات أيامنا». وتأملي في بعض التجليات الخارقة في وجود الحياة على الأرض مدعومة بفهمي للفيزياء الحديثة، كانت مناط حقل واسع من عالم قصصي ورد تحت مسمى «الباراسيكلوجيات» في كتاب «البستان». وهذا الكتاب تحديدا حير بعض الناقدين من تقسيمي له إلى ثلاثة أجزاء هي: فيزيقيات، وسيكلوجيات، وباراسيكلوجيات. لكنني التزمت الصمت، ولعلي أبوح الآن بأنني كنت أُعلن عن حيرتي إزاء هذا الفصل الجائر بين ثلاثة حقول رأيتها وأراها متكاملة، وهو ماعبرت عنه في كتابي «رنين أوتار الماء»، حيث برهنت على أن هذه الحقول الثلاثة من مظاهر الوجود، هي أطياف لونية لجوهر واحد هو حياتنا الأرض.

ولعل هذا الكتاب تحديدا «رنين أوتار الماء» هو التدشين الأوضح لعطايا الثقافة العلمية التي تهديني أجمل شرارات الدهشة، ومن هنا يحلو لي أن أسترجع بعض الومضات التي أرى في ضوئها ما أزعم أنه تأثير واضح للثقافة العلمية في الإبداع القصصي عندي، وبلا أي ادعاء للتواضع أظن أنها تجربة طليعية في الإبداع العربي القصصي الحديث.

يبدأ الكتاب بجرس إنذار وتنبيه في شكل نبذة افتتاحية تقول بعض مغنيات الأوبرا من «السوبرانو» ذوات الأصوات بالغة النقاء والقوة، يستطعن بأصواتهن تهشيم كئوس البلور النقي بفعل الرنين
Resonance
وهو محاولة المادة للاهتزاز توافقيا مع موجة صوتية عالية الطاقة تجعل الزجاج يرج نفسه بعنف حتى يتحول إلى نثار كيما ينجز هذا التوافق وكأنه تحول إلى أوتار عديدة يتجاوب كل منها مع موجة الصوت الحافز، ثم تبدأ القصص في التوالي....

في قصة «تلك الحياة الفاتنة»، يحدث تجل خارق لرجل أوشكت زوجته أن تلقى حتفها في جراحة خطيرة بسبب حمل خارج الرحم، وبينما هو في دوار عواطفه المتأججة تدهس السيارة التي يركبها قطة تعبر الطريق، فيرى القطة مرتين، مدهوسة على الأسفلت، وحية تقفز ناجية نحو الرصيف الآمن. ويقول بطل القصة في مونولوج داخلي يناجي به زوجته النائمة في المستشفى: «أعرف ياسكني أن احدا لن يصدقني مثلك، وأعرف أن تصديقك لي ليس مماشاة مجنون تحبينه، لكنه تصديق شريكك في الإيمان بأن الكون من حولنا مليء بالمدهشات التي لانعرف قوانينها فنسميها «معجزات» أو خوارق. وأعرف أنك طيبة إلى درجة الفرح بكل معجزة شجية. لهذا لن أخون طيبتك تلك وسأبسط بين يديك تفسيري لتلك الرؤية التي تكشفت لي وأنا في الطريق إليك بعد نجاتك من الموت مرتين، مرة من النزيف الداخلي، ومرة من تلك الجراحة الكبرى التي استأصلوا فيها جزءا من داخلك.

بقوانين عالمنا المحسوس، ياسكني، اندفعت القطة فدهستها عجلات السيارة. لكنها بحسابات الروح وبما كانت فيه من فرح اللعب، ثم في مواجهة المباغتة الخئون للخطر الداهم، قفزت قفزة الحياة في وجه الموت، فنجت. ولو شئنا ياطيبتي تفسيرا آخر، لحدثتك في ضوء نسبية الزمن الذي يتلكأ أمام راصد دافئ، فقد لمحت اللحظتين معا.

نعم يا سكني، لمحت اللحظتين، بل لمحت لحظة النجاة قبل الموت، وهذا جائز عندما تبرق أذهاننا بسرعة تفوق سرعة الضوء فنرى العلل قبل معلولاتها.. نرى النتائج قبل الأسباب».

ثم تنتهي القصة، بالطريقة التي أعشقها كثيرا، وهي المعادل الروحي أو النفسي للظاهرة الفيزيقية، فيقول بطل القصة في ختام مناجاته لزوجته «ياسكني، كثير من هؤلاء الناس الذين نراهم يمضون من حولنا في نهر الحياة، دهستهم الحياة من قبل، مرة أومرات. لكنهم انتفضوا ليواصلوا المسير. فالحياة طيبة بالرغم من كل شيء، وبالرغم من أنها في مثل تلك الحالات تغدو مثقلة بذكرى اللحظات الأليمة .. تغدو مفعمة بالشجن .. والشجن حزن جليل. والجلال أعلى مراتب الفتنة .. ياسكني».

وفي قصة «حقيبة بلون الشفق والرمل» يقول الراوي: «غريبة هي الحقيبة التي ترقد في الخزانة ذات الواجهة الزجاجية في بيت تشيخوف في موسكو. أذهلني تطابقها مع تلك التي حلمت بها يوما. اللون نفسه والهيئة والمقبض الحنون والجيوب الخارجية والأقفال. المفروض أنها حقيبة طبيب لكنها مختلفة عن أى حقيبة لطبيب. إنني على استعداد أن أقسم بأنها الحقيبة نفسها التي حلمت بها يوما، وقادني حلمي بها إلى اكتشاف ما اكتشفته. إنني بمقدار يقيني في وحدة الكون، لا أشك لحظة في أن بارقا برق - لسبب ما - في الوجود، يوم كنت في العاشرة، ونقل إلى ذهني الحالم صورة تلك الحقيبة النائمة في خزانة ذات واجهة زجاجية على بعد آلاف الأميال، وراء بحرين، وسلسلة جبال راسخة، وفي أقاصي قارة بعيدة». هكذا كتبت عن ظاهرة غرائبية، بشكل يقيني، ولولا اقتناعي بآراء كارل جوستاف يونج التي أسماها «التزامنية» في تفسير مثل هذا الظواهر، ماكنت كتبت بمثل ذلك اليقين .

في قصة «قارب صغير يتسع لاثنين»، يقوم رسام بإعداد قارب ينجيه هو وحبيبته من الطوفان الذي سيتسبب عن ضرب إسرائيل للسد العالي بقنبلة نووية، وهو ما هدد به الصهيوني مقزز التعصب «أفيكتور ليبرمان» في وقت مبكر، وكرره شامير في وقت لاحق. تصور القصة حالة تأهب ملايين المصريين للطوفان القادم مع انهمار مليارات الأطنان من المياه عبر السد المضروب، يتأهبون للنجاة بطوافات ومراكب وسفن من كل نوع، ويتسلحون بكل أدوات الانتقام الممكنة ضد عدوهم وعدو الحياة على الأرض. سيناريو كارثي كوني، كتبته بحرقة لأن العلم يزودني بحقيقتين، علم النفس يجعلني أومن أن فلتات اللسان تعبر عن مكنون داخلي، وان المتخيل البشع ليس في حاجة إلا لإراداة شريرة حتى يتحول إلى واقع تدميري، وإسرائيل مكدسة بمثل هذه الإرادات الشر يرة، ولعل إحراق غزة يعطينا أقرب وأوضح الدلائل، أما وصف الطوفان المحتمل، فهو معتمد على حسابات بيئية اطلعت عليها بتدقيق كثير، وتقص واسع.

في قصة «شرفة العطور»، بحث عن تجليات حضور الأرواح السابحة من حولنا في اللامحسوس الذي يكتنف المحسوس، ومزاوجة بين روح العطور وأرواح البشر، ولقد سألني سائل ماكر ألا تتشابه هذه القصة مع قصة «العطر» لزوسكند، فابتسمت بشفقة ولم أجب، لأن الإجابة كانت هي أننا كلانا - زوسكند وأنا - شربنا من النبع نفسه، وهو فرع من علم درسته في إطار الطب البديل الذي أحمل شهادة دولية كمتخصص فيه، وهذا الفرع يسمى «العلاج بالعطور Aromotheraby» . لكن بينما كان زوسكند يتعقب قاتلاً، كنت أنا أتعقب أرواحا هائمة. ولكل إنسان عطره!

في قصة «المختفي مرتين»، أتحدث عن حنين الإنسان إلى استعادة حبه الضائع، وكيف يعبر بطل القصة الزمن بآلية هي مزيج من علم الفيزياء والعلوم الروحية في الشرق، تقول القصة عن عابر الزمن الذي اختفى وهو يتعقب حبه الضائع : «أتذكر أول جلسة مناقشة معه قبل الشروع في البحث. حلق بي في أجواء كونية وعوالم متداخلة بدلا من الغوص في أرض الفيزياء المسطحة. كان مفتونا بنظرية الكم ونسبيتي أينشتين العامة والخاصة. ولديه يقين في أن الزمن بعد رابع قابل للتحرك به وعليه ذهابا وإيابا، شأن الأبعاد الثلاثة الأخرى التي نألفها في وجودنا المعتاد: الطول والعرض والعمق. ولطالما كن يردد قول أينشتين : «الناس الذين على شاكلتنا ممن يؤمنون بالفيزياء، يدركون أن الحواجز بين الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل، ما هي إلا مجرد أوهام، وإن بدت مستعصية».

وفي قصة «رنين أوتار الماء» التي يهرب فيها إنسان من أصوات الآلام والعويل والعذاب البشري التي تطارده كلما فتح صنبورا أو دوشا للماء، ويلتمس مكانا تحت الشمس نقيا من بؤس هذه الأصوات، فإن المعرفة بطبيعة الصوت تفسر أعجوبة كمون أصوات الماضي في مسام الحاضر، «كدت أيأس وأستسلم لفكرة أنني مجنون وأن ما أسمعه مجرد هلاوس سمعية لا وجود لها في الواقع، لكن خاطرا عابرا أضاءني فجأة، وأحسست أنني أعثر على تفسير لم يقل به أحد وينبع من قوانين الفيزياء البسيطة التي تعلمناها في المدرسة الثانوية. وأنت تعرف أن الصوت موجات من تضاغط وتخلخل في الهواء، وتراكيب تنطلق من حولنا ولا تختفي أو تتبدد كما يظن معظم الناس. إنها طاقة، تبقى وتتخذ لها مكامن تتناسب مع قوتها وحيزها المضغوط، تنغرس في مسام الخشب، في شقوق الحيطان، في الفجوات حيثما كانت، ولا تنطلق إلا بجذبها جذبا من جديد. وهنا لب مسألتي، فالماء عندما يخرج مضغوطا بقوة من ثقوب الدوش الرفيعة أو من مصفاة صنبور الحوض، أو بجذب كتلة الأرض لزخات المطر. الماء في هذه الحالات يغدو كأوتار مشدودة قابلة للاهتزاز بأصغر نسمة وأوهى نفس، وكما في صندوق الرنين يهتز وتر من اوتاره دون لمس عندما نطرق شوكة رنانة بقربه، هكذا يستدعي اهتزاز أوتار الماء الأصوات المختبئة وتخرجها من مكامنها».

وفي قصة «ذلك الوميض»، فإن الزوجة العاقر التي تبنت وزوجها القطط كأبناء بدائل، يحدث لها حمل مفاجئ، لكن الوليد يأتي بعيون تومض في الظلمة كما عيون القطط. وبالرغم من أن القصة تقدم كشفا لآلية حدوث الاحتمال، عبر فهم طبيعة خلايا التابيتم في شبكية عيون القطط، وإمكانية التأثير النفسي للمرأة شديدة الشوق للإنجاب في تغيير فسيولوجية الجسد، يبدو الخارق محتملا. ويحدث انقلاب في مفاهيم راسخة في الطب والطب النفسي لمصلحة أشواق الإنسان الحارقة.

كانت تلك ومضات من تأثير الثقافة العلمية في هذا الكتاب القصصي، أستعيدها للتذكر، لكن لا يفوتني التذكير بأن هذه الومضات لم تكن إلا وسيلة لنسج القصص، التي هي قطعا خارج إطار مايسمى بأدب الخيال العلمي، بل هي في متن القصص الإنساني، في قلب الأدب الذي أرى أن أبلغ تعريف له أنه «سجل المشاعر»، والعلم الحديث في ذراه، لم يعد جامدا جمود السببية في الفيزياء التقليدية، بل صار مولدا للأسئلة الكبرى التي تتعلق بالوجود الإنساني، وفي قلب هذا الوجود تتألق المشاعر، وتلمع الدهشة.

د. محمد المخزنجي
من كتاب " تجارب في الإبداع العربي






ليست هناك تعليقات: